خاص ايكو وطن: الهجرة الثقافية للمبدعين اللبنانيين: نزيف الهوية وصراع البقاء

الرئيسية ثقافة / Ecco Watan

الكاتب : محرر الصفحة
Oct 05 25|13:58PM :نشر بتاريخ

كتب الباحث فاروق غانم خدّاج في إيكو وطن:

في العقدين الماضيين، لم تعد الهجرة اللبنانية مرتبطة فقط بالبحث عن لقمة العيش أو الأمن المفقود، بل صارت تحمل وجهًا آخر أكثر إيلامًا: هجرة العقول والمبدعين. الشعراء، الروائيون، الفنانون التشكيليون، الموسيقيون، بل حتى أصحاب المبادرات الثقافية الصغيرة، باتوا يرحلون بصمت، تاركين وراءهم مشهدًا ثقافيًا يتداعى يومًا بعد يوم. هذا النزيف الثقافي لا يمسّ النخبة فقط، بل يضرب في الصميم صورة لبنان كمنارة للثقافة العربية منذ مطلع القرن العشرين.

جذور الظاهرة: من الحروب إلى الانهيار

ليست الهجرة الثقافية وليدة الأزمة الاقتصادية الأخيرة فحسب، وإن كانت قد سرّعت وتيرتها. وفق بيانات منظمة العمل الدولية (ILO)، يعبّر 63% من اللبنانيين عن رغبة قوية في المغادرة بشكل دائم، وترتفع هذه النسبة إلى 47.8% بين الشباب (18-29 سنة)، مما يُظهر عمق الأزمة التي يعانيها جيل المستقبل. منذ الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990)، شهد لبنان موجات نزوح متتالية للمثقفين، غير أنّ ما يجري اليوم يتجاوز كل ما سبق: فالمبدع اللبناني لم يعد يجد في وطنه بنية تحتية تدعمه، لا من الدولة المفلسة، ولا من مؤسسات ثقافية أنهكتها الديون، ولا من جمهور يئن تحت ضغط المعيشة.

الثقافة كوجه لبنان المشرق

منذ النهضة العربية في القرن التاسع عشر، كان لبنان مركزًا لإنتاج الثقافة ونشرها. تأسست مطابع وصحف لعبت دورًا محوريًا في حركة التنوير العربي، وازدهرت الجامعات التي جذبت طلابًا من مختلف الأقطار. لكن الفرق بين الأمس واليوم أنّ هجرة المبدعين المعاصرين تُفرغ الداخل ثقافيًا دون أن تمنحه القوة الكافية ليُنهض من جديد. فالمبدع الذي يهاجر الآن ينخرط في ثقافة بلد الاستضافة، لكنه غالبًا لا يجد المساحة الكافية ليحمل لبنان معه كما فعل رواد النهضة الثقافية سابقًا.

أسباب عميقة: أزمة هوية ودعم

هناك أسباب مباشرة تدعم هذه الهجرة: غياب الدعم المادي، انهيار العملة، انعدام الأمن الاجتماعي. وقد تفاقم هذا بسبب انهيار العملة الذي أدى إلى انخفاض الأجور الحقيقية بأكثر من 90%، ووصول معدلات البطالة إلى 29.6%، مع ارتفاعها إلى 47.8% بين الشباب، وفق منظمة العمل الدولية. لكن وراء هذه المظاهر تكمن أزمة هوية أعمق. فالمثقف اللبناني لم يعد يجد اعترافًا بدوره داخل المجتمع. السياسة طغت على الثقافة، والولاءات الحزبية ضيّقت على الفعل الحرّ.

تداعيات النزيف الثقافي

الهجرة الثقافية ليست مجرد انتقال أفراد من بلد إلى آخر. هي تفريغ للذاكرة الجمعية، وقطع لسلسلة الإبداع المتواصل. حين يرحل الشعراء والروائيون، يخسر المجتمع لغته الرمزية التي تصوغ الوعي والوجدان. وحين يغادر الفنانون، تخسر البلاد صورها في المرايا العالمية. كما أنّ غياب المبدعين يُنتج فراغًا داخليًا يُملأ غالبًا بثقافة سطحية مستوردة، تفتقر إلى الجذور المحلية، مما يحوّل المشهد الثقافي إلى ساحة استهلاك بدل أن يكون ساحة إنتاج.

هل من أفق للحل؟

رغم قتامة الصورة، ليست كل الأبواب مغلقة. هناك مبادرات فردية وجماعية لا تزال تقاوم: صالونات أدبية تُعقد في البيوت، معارض فنية صغيرة في القرى، منصات رقمية تحاول أن تكون بديلًا عن المؤسسات الرسمية. كما أن الجاليات اللبنانية في الخارج يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في دعم الداخل، عبر شبكات نشر وتمويل ومهرجانات عابرة للحدود. مبادرات دولية، مثل مشروع اليونسكو لإعادة إعمار التراث الثقافي في بيروت بعد انفجار المرفأ، توفّر دعمًا ملموسًا للفنانين والمبدعين، وهو مؤشر على إمكانية استعادة المشهد الثقافي تدريجيًا.

خاتمة: بين نزيف الحاضر وحلم الغد

الهجرة الثقافية للمبدعين اللبنانيين ليست حدثًا عابرًا، بل جرحًا مفتوحًا في جسد الأمة. إنها صرخة تُذكّرنا بأن الثقافة ليست مجرد كتب أو معارض أو حفلات، بل هي جوهر الكيان اللبناني ذاته. إن لم يُستدرَك هذا النزيف، قد يجد اللبنانيون أنفسهم بعد سنوات قليلة بلا لغة تعبّر عنهم، وبلا فنون تجسّد معاناتهم وآمالهم. ومع ذلك، تبقى هناك فسحة أمل: إذا ما أُعيد الاعتبار للثقافة لا كترف، بل كضرورة وجودية، يمكن لجيل جديد من المبدعين أن يجد طريقًا مغايرًا للحفاظ على وجه لبنان المشرق وسط العتمة.


المصادر الموثوقة

1. منظمة العمل الدولية (ILO) – تقرير حول الهجرة والبطالة في لبنان، 2022


2. البنك الدولي (World Bank) – تقرير عن هجرة الكفاءات من لبنان، 2023


3. اليونسكو (UNESCO) – تقرير الوضع الثقافي في لبنان، 2022


4. دراسة أكاديمية حول هجرة الأطباء اللبنانيين المتخرجين إلى الخارج، 2023

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : ايكو وطن-eccowatan