إستحالة تحرير سعر صرف الليرة من دون قانون كابيتال كونترول
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : البروفسور جاسم عجاقة
May 21 22|14:22PM :نشر بتاريخ
أصبح من الأكيد أن صندوق النقد الدولي طلب من الوفد اللبناني المُفاوض وقف ضخ الدولارات في السوق، وهو ما يعني أن يتوقف مصرف لبنان عن ضخ دولارات من باب التعميم 161. هذا التعميم 161 ينص على إعطاء دولارات دون سقف مُقابل كاش بالليرة اللبنانية في كل التعاملات المصرفية، وهو ما يتمّ عبر منصة صيرفة التي يتواجد عليها ثلاثة جهات هي مصرف لبنان، والمصارف التجارية، والصرافين من الفئة الأولى.
ويهدف صندوق النقد الدولي من هذا الطلب الوصول إلى سعر صرف مُستقرّ يُحدّده السوق (بناءً على العرض والطلب) على أن يعمد بعدها مصرف لبنان إلى المحافظة على هذا الإستقرار. المحاكاة الحسابية تُشير إلى أن مثل هذا الإجراء سيرفع الدولار إلى مستويات تتخطى الـ 40 ألف ليرة لبنانية في أحسن الأحوال. لكن ما غاب عن بال المسؤولين أن هذا الإجراء يعني أن الدولار لا سقف له لأن السوق مفتوح لتهريب الدولارات وهو ما يعني إستحالة إيجاد المستوى الذي سيستقر عليه سعر الصرف.
الأسباب التي تدفعنا إلى قول هذا عديدة نذكر منها:
أولًا – عندما يقوم تاجر بإرسال أموال طازجة عبر المصرف لشراء سلع من الخارج، لا يوجد أي ضمانة على أن التاجر إستورد بضائع بقيمة المبلغ الذي أرسله. وقد يقول البعض أنه طالما يقوم التاجر بإرسال أموال طازجة، فهذا يعني أنه لا يحق للحكومة التدخل في العملية عملًا بمبدأ الإقتصاد الحرّ، إلا أن هذا الأمر غير دقيق بحكم أن التاجر الذي يقبض من المستهلك بالليرة اللبنانية يعمد إلى شراء الدولارات على منصة صيرفة (من خلال المصرف أو الصراف)، وبالتالي فهو يستنزف الكتلة النقدية بالعملة الصعبة الموجودة في السوق! من هنا نرى ضرورة التشدّد في ضبط هذه العملية من خلال منع التاجر من إرسال الأموال إلى الخارج إلا بعد أن يُقدم الإثباتات (ورقة التحويل، الفاتورة، ووصل الجمارك) للعملية السابقة إلى المصرف لكي يقوم هذا الأخير بالسماح له بإرسال الأموال. بالطبع هذا الأمر يتطلّب قاعدة بيانات مركزية.
ثانيًا – عندما يقوم مُصدّر بتصدير بضائعه إلى الخارج، يقوم بقبض الأموال بالعملة الصعبة من الجهة التي إشترت السلع. وهنا لا ضمانة أيضًا أن يقوم هذا المُصدّر بإرجاع الدولارات إلى لبنان. وقد يقول البعض أيضًا أننا ضمن إقتصاد حرّ ولا يحق للحكومة التدخل في هذه العملية، إلا أن هذا الأمر غير صحيح بحكم أن المصدّر (سواء كان مزارع أو صناعي) يقوم بإستيراد المواد الأولية بالدولار الذي يشتريه من السوق اللبناني. وبالتالي يتوجّب على الحكومة التأكّد من أن الدولارات التي تمّ شرائها من السوق اللبناني ستعود إلى السوق اللبناني.
ثالثًا – لا تزال حتى الساعة عمليات تصدير التجّار إلى الخارج قائمة على قدمٍ وساق. فعندما يقوم تاجر بإستيراد السلع من الخارج أو يقوم بشراء السلع المصنّعة في لبنان، فإنه يستخدم دولارات السوق اللبناني، وبالتالي فإن أي عملية تصدير إلى الخارج يجب أن يليها عملية إعادة الدولارات إلى السوق اللبناني.
بالطبع كل هذه العمليات يجب أن تحترم حرّية التصرّف بالأموال للمُصنّع والمزارع والتاجر، مع التأكيد على أن وجود هذه الأموال في لبنان يُشكّل عامل ثقة بالليرة اللبنانية، ويُخفّف من الإستنزاف الحاصل في موجودات المركزي بالعملات الصعبة.
الرقابة على العمليات التجارية هي ضرورة لضمان عدم تهريب الدولارات إلى الخارج وضمان إستقرار نسبي في سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية. وبالتالي يتوجّب أن تكون هذه الرقابة موضوعة ضمن نص قانوني عنيت بذلك قانون الكابيتال كونترول الذي يجب أن يأخذ بعين الإعتبار أيضًا كل العمليات التجارية عبر الحدود والتي تُشكّل أيضًا وسيلة لخروج الدولارات من الماكينة الإقتصادية.
وفي ظل فرضية عدم إقرار قانون كابيتال كونترول يحوي على هذه الخطوات، فإن توحيد سعر الصرف يبقى من شبه المستحيلات بالإضافة إلى إستحالة وجود سقف للدولار مقابل الليرة اللبنانية. من هذا المُنطلق، نرى أن الحل الأمثل يتمثّل بإقرار قانون الكابيتال كونترول بالمواصفات الآنفة الذكر بالتزامن مع عملية تحرير سعر الليرة على أن يضمن المصرف المركزي تدخلات محدودة بالحجم والتوقيت لتفادي صعود إسّي لسعر صرف الدولار وهو ما سينسحب تلقائيًا على أسعار السلع والمواد الغذائية والمحروقات والأدوية. هذه الخطوات يجب أن تتزامن مع فرض قبول البطاقات المصرفية في المحال التجارية (حتى ولو ضمن سقف مُحدّد) ومحاربة السوق السوداء المُتمثّلة بتطبيقات أصبح مُشغّليها معروفين من القوى الأمنية. عندها وفقط عند القيام بهذه الخطوات، فإن ضخّ دولارات جديدة من قبل صندوق النقد الدولي (بعد توقيع الإتفاق النهائي) يُصبح من الممكن الحديث عن بلوغ القعر والبدء بعملية الصعود التي تؤمّنها الإصلاحات التي ستقوم بها الحكومة.
أيضًا وعلى هذا الصعيد، من الضروري السيطرة على عجز المالية العامة وترشيد إستهلاكها من الدولارات خصوصًا الكهرباء والإتصالات والبعثات الديبلوماسية والسفر إلى الخارج، بالإضافة إلى معالجة جدّية لموضوع الدين العام التي لا تمرّ عبر المسّ بالودائع، معالجة تتحمّل فيها الحكومة اللبنانية مسؤولياتها ومسؤوليات الحكومات السابقة عما إرتكبته هذه الحكومات المُتعاقبة من دين عام غير مُبرّر والبحث عن الـ 27 مليار دولار أميركي المجهولي المصير في حسابات الدولة (تقرير وزارة المال)، والـ 6 مليارات دولار أميركي في الإتصالات وغيرها من الأموال المجهولة المصير.
كل هذا لا يُمكن أن يحصل من دون إرادة واضحة من قبل القوى السياسية في المجلس النيابي. هذا المجلس سيواجه قريبًا إستحقاقات قوية تبدأ بإنتخاب رئيس ونائب رئيس للمجلس النيابي بالإضافة إلى هيئة المجلس وأعضاء اللجان. بعدها يواجه المجلس الجديد الإستحقاقات الإقتصادية والمُتمثّلة بقوانين أساسية كفيلة بوقف النزيف المُستمرّ: مشروع قانون الموازنة، مشروع قانون الكابيتال كونترول، مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، مشروع قانون رفع السرّية المصرفية، مشروع قانون شبكة الأمان الإجتماعي... فهل سيكون المجلس الجديد على قدر التحدّيات؟ التاريخ وحده قادر على الجواب على هذا السؤال.
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا