من تعافٍ مالي الى استقرار ماكرو اقتصادي، كيف يُكسَبُ الرهان؟
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : البروفسور جورج نعمة
May 26 22|09:06AM :نشر بتاريخ
تعاقبت الحكومات منذ بدء ظهور الانهيار في ١٧ تشرين ٢٠١٩ وتعددت مشاريع التعافي المالي للقطاعات المعنية بالأزمة وترافق ذلك مع ردات فعل رافضة لتحمل كلفة الخسائر واضعة الخطط الحكومية تحت المجهر ومشككة بصوابيتها وعدالتها وفعاليتها. فأين يكمن الخلل وما هي آلية النهوض الحقيقي وكيف يمكن ترجمتها عمليا وعلميا لتدارك الموضوع وتفادي المحظور؟
للتمكن من إرساء خططا حقيقية وواقعية، لا بد لنا أن نجيب عن سؤالين أساسيين:
أولا- هل الأزمة بدأت فعلا في العام ٢٠١٩ أم قبل ذلك بسنوات عديدة؟
ثانيا- هل بدأت المرحلة الأخطر والأشد قسوة أم ليس بعد؟
في البداية، لا بد لنا أن نقوم بتشخيص علمي سليم للأزمة ومسبباتها وهو أمر لم يحصل ولم ينشر ولم يتم تداوله في الأروقة وفي الاعلام والمنتديات حتى الساعة. فكيف لنا أن نقر خطة تعافٍ مالي ونناقشها قبل البدء بالحجر الأساس ألا وهو تشخيص سليم للداء الذي أصابنا للإتيان بالدواء المناسب والفعال؟ هل يُعقل أن نكون قد أخطأنا المسار لسنين عديدة بالرغم من المحاذير التي أطلقها صندوق النقد الدولي استنادا الى تقارير زيارات بعثاته السنوية تطبيقا للفصل الرابع من نظامه، وبالرغم أيضا من المحاذير التي أطلقها اقتصاديون حقيقيون (لا منتحلي صفة وما أكثرهم) ولو كانوا قلة قليلة بين الجموع المؤيدة لما كان يؤخذ من قرارات مالية ونقدية خاطئة بحق البلد وشعبه؟
ان الأزمة التي أصابت لبنان تُعَدُ أزمة أساسيات ماكرو اقتصادية من الجيل الأول اندلعت بسبب السياسات النقدية التقشفية التي اعتمدت تثبيت سعر صرف النقد الوطني مقابل الدولار وترافقت مع سياسات مالية انفلاشية هدرت المال العام من دون الركون الى الاستثمارات المنتجة والفعالة. لا بد أن يشكل هذا التشخيص الحجر الأساس لأي خطة نهوض وللتحقق من صوابيتها وللتأكد من عدم تكرار الأزمة بعد سنوات قليلة من معالجتها، وهو ما حصل في العديد من الدول التي أرست خططا غير علمية وغير واقعية استنادا الى تشخيص خاطئ لماهية أزماتها ومسبباتها.
فطريق الحل السليم في لبنان يمر حكما بالتوجهات الأساسية التالية لتأمين استقرارٍ ماكرو اقتصادي يسمح للحكومة تنفيذ خطة تعافٍ مالي:
أولا-تغيير جذري للسياسة النقدية والانتقال المنتظم والمدروس لسعر صرف موحد يعتمد مبدأ التعويم والانتهاء بشكل كامل من كافة أشكال تثبيت الليرة (من الدولرة الى التعويم المدار مرورا بمجلس النقد وربط الزحف) فأي سياسة نقدية تعود بنا الى نوع من تثبيت صرف الليرة ستكون تداعيتها وخيمة في المستقبل القريب. وهنا يجب التذكير بنظرية "مثلث موندل" والتي تجزم عدم إمكانية تأمين استقلالية السياسة النقدية وتدفق الأموال من الخارج مع اعتماد سياسة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار. فالفوائد العالية التي اعتمدت للإبقاء على ثبات الليرة قد قضت على الاستثمار والإنتاج ووضعت الأشخاص الطبيعيين والمعنويين والمصارف أمام الاعتماد الحصري على الودائع وفوائدها، ان في المصارف التجارية وان عبر شهادات الإيداع في مصرف لبنان والتي تشكل اليوم الفجوة المالية الضخمة التي لا يمكن تسديدها بطرق تقليدية ومن دون إصلاحات جذرية.
ثانيا-تغيير جذري في السياسات المالية للحكومة لضبط الهدر وتخفيف حجم القطاع العام نسبة للقطاع الخاص وتحسين جودة خدماته. فالسياسات المالية الانفلاشية التي كانت تعتمد حصرا على النفقات الجارية والغير استثمارية والتي ترافقت مع ترهلٍ كبير في مؤسسات الدولة، ساهمت في الفجوة المالية التي وقعت في ميزانية المصرف المركزي الذي كان يقوم بشراء سندات الخزينة من دون ضوابط ومعايير، والسياسات المالية نفسها قد راكمت الديون وأوصلت الدولة الى اعلان تخلفها عن سدادها في ٩ اذار ٢٠٢٠. المعالجة الفعلية للمالية العامة ترتكز على تعقيم نفقاتها ووارداتها معا. فالنفقات الاستثمارية يجب أن تشكل العمود الفقري لموازنة الدولة أما النفقات الجارية فيتوجب ضبطها عبر إعادة هيكلة القطاع العام لتقليص حجمه وتحسين خدماته. وتبقى المشكلة الأساسية ألا وهي التهرب الضريبي الذي يستوجب تفعيل الرقابة والتشارك في التدقيق مع القطاع الخاص لضبطه كما حصل في دول أخرى في العالم.
ثالثا-إقرار خطة استراتيجية تهدف الى تقليص عجز الميزان التجاري الى أدنى حدود ممكنة وذلك عبر سياسات صناعية وزراعية وخدماتية تحفز الانتاج المحلي وتتيح له فرص النمو السريع كماً ونوعاً عبر تأمين الخدمات والبنى التحتية اللازمة وعبر تسهيلات تمويلية وحوافز ضريبية. فأي خطة للتعافي المالي لا يمكن أن تنجح وتصل الى أهدافها ان أكملنا في سياسة الاستيراد الحالية لتغطية ٨٥٪ من استهلاكنا والتي تؤدي الى خروج كميات ضخمة من العملات الصعبة نحو الخارج. فالجانب الايجابي الوحيد من تداعيات الأزمة والذي يمكن استغلاله هو تحفيز الصادرات بفعل انخفاض قيمة النقد الوطني وذلك بهدف التخفيف من عجز الميزان التجاري وخروج العملات من لبنان، مما يساهم في استقرار سوق النقد الذي يعتمد سياسة الصرف العائم.
رابعا-معالجة إشكالية ميزانية المصرف المركزي وتعقيمها بهدف تخفيض أرقام موجوداتها ومطلوباتها والاعتراف بالخسائر للتمكن من إعادة السلطة النقدية لتأدية مهامها الأساسية والمنصوص عنها في قانون النقد والتسليف. وهنا لا بد من الإشارة أن آلية العمل على خطة التعافي المالي يجب أن ترتكز على أن الودائع لا يمكن شطبها وأنه ما من قطاع مصرفي في العالم يمكنه اعادة الودائع الى مالكيها وأن الهدف ليس تسديدها نقدا للجميع بل استعادة الثقة وتشخيص الخلل وتصحيح أداء المصرف المركزي لتأمين عودة لبنان الى الأسواق العالمية وإعادة ضخ العملات نحوه. وان كانت السلطات عاجزة عن القيام بهذا الأمر، فعليها إعادة النظر بمواردها البشرية لكي تجتاز هذا الاستحقاق بطريقة علمية وواقعية.
خامسا-إعادة هيكلة القطاع المصرفي لتمكين المصارف من العودة للقيام بوظيفتها في تمويل الاقتصاد واستعادة الثقة بها من قبل المؤسسات والعملاء. فالمعايير التي يجب اتباعها واضحة وعلمية وقد نصت عنها اتفاقية "بازل ٣" لناحية رأس المال، والملاءة، والسيولة. بناء عليه تقوم السلطات النقدية بإعادة الهيكلة عبر الدمج والتصفية حيث يلزم بهدف تقليص عدد المصارف وتمتعها بقدرة مالية للعودة الى الأعمال المصرفية بحسب الأصول وتحت الرقابة الفعالة للسلطة النقدية بكافة هيئاتها (الهيئة المصرفية العليا، هيئة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة).
سادسا-تطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة لفصل التنفيذ عن الرقابة في السلطة النقدية وتأمين استقلالية الأسواق المالية عن القطاع المصرفي بهدف تأمين سبل إضافية لتمويل الاقتصاد من خارج حصرية المصارف وهو ما يعمل به بكافة دول العالم المتقدمة والنامية.
مع إعادة تشكيل السلطة التشريعية بعد الانتخابات النيابية، نكرر النداء والنصح، فمقترحات التعافي المالي المتداولة كثيرة والآراء الرافضة لها كثيرة والمطلوب واحد: إرساء خطة استقرار ماكرو اقتصادي تحتضن خطة التعافي المالي لتمكنها من تحقيق أهدافها. أما الاستمرار في نكران الواقع والتلهي عن الأساس، فلن يصل بنا الى بر الأمان وان غدا لناظره قريب.
بقلم البروفيسور جورج نعمه، نائب رئيس جامعة الحكمة وعميد كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال فيها
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا