كتب ياسر غازي في ايكو وطن كاريش: أبعد من نزاع حدودي.. إنه السباق نحو أوروبا

الرئيسية مقالات / Ecco Watan

الكاتب : الدكتور ياسر غازي
Jun 14 22|18:21PM :نشر بتاريخ

                  

لعل أبرز ما جاءت به العولمة الليبرالية، نقلُ مفهوم الجيوبوليتيك (بما هو سياسةُ توسع) من إطار الإيديولوجيات المقفلة، التي سادت في القرن العشرين لا سيما إبان الحرب الباردة، إلى الفضاء الاقتصادي القائم على تنافس المصالح الجيواستراتيجية. الأمر الذي أسهَم في توجيه بوصِلة الصراع الكوني باتجاه كسب الموارد الطبيعية وفي القلب منها موارد النفط والغاز التي أصبحت محرِكاً رئيسياً للصراعات الإقليمية والدولية المعاصرة، وبات بالإمكان اختصارها بعبارة "جيوبوليتيك الطاقة".

تحت هذا المسمّى تندرج قضية حقل الغاز "كاريش" المتنازع عليه بين لبنان والكيان العبري، نزاع محكوم بالمصالح النفطية التي تفسر هدوء الجبهة بين الطرفين منذ نحو 16 عاماً، أي منذ حرب تموز 2006، إذ يمكن عنونة المرحلة المذكورة بـ"مرحلة اكتشافات الطاقة في شرقي المتوسط" وكان باكورتَها حقلُ تمار الإسرائيلي عام 2009 وبعده حقل لفياثان عام 2010، ولاحقاً كاريش (Karish gas field)، وهو حقل نفط وغاز طبيعي بحري اكتُشف في تموز 2013 على بعد 100 كم من السواحل الإسرائيلية في البحر المتوسط،، وتُقدر إحتياطيات الغاز المؤكدة في الحقل بـ 2.5 تريليون قدم مكعب، وهو أصغر من حقلي تمار ولفياثان للغاز اللذين جعلا من إسرائيل مُصدّراً للغاز.

فإذا ما استثنينا تبادل التهديدات (التهويلية) بين إيران ممثلةً بحزب الله وإسرائيل، على خلفية تصاعد وتيرة المواجهة الاستخبارية بينهما، يتبيّن واقعياً أن الطرفين غير معنيين - على الأقل في المرحلة الراهنة- بإشعال مواجهة عسكرية لا طائل منها في ظل المعطيات الإقليمية والدولية. 

 إذاً أولوية كل من لبنان و"إسرائيل" هي استخراج الغاز أكثر من أية مكاسب حدودية، مع اختلاف الأسباب والدوافع لدى كل منهما والتي تحمل كلا الطرفين على الاحتواء الضمني للنزاع، فلا يبدو أن هناك توجهات لدى تل أبيب على المدى القصير وربما المتوسط للجوء إلى القوة العسكرية لحسم النزاع، وذلك لجملة اعتبارات:

 - إن وضع إسرائيل حساس جداً لناحية انتشار منشآتها البحرية لاستخراج الغاز في مناطق شاسعة في المتوسط،، ما يجعلها عرضةً للاستهداف السهل في حال تطور النزاع إلى عمل مسلح، بالرغم من تزويد سفنها بأنظمة القبة الحديدية، وبحريتها بقطع ألمانية غاية في التطور.

- الـ Momentum الدولية المؤاتية، فقد وفّرت حرب فلاديمير بوتن على أوكرانيا وارتداداتها الهائلة في سوق الطاقة إمداداً وأسعاراً ، الفرصة التاريخية للدول الطامحة لانتزاع حصتها من السوق الأوروبية العطشى للطاقة وبخاصة الغاز الطبيعي، ولكسر شبه الاحتكار الروسي لامتياز تصديره للقارة العجوز. (علماً أن الغاز الإسرائيلي المستخرج من حقل لفياثان بدأ يتدفق إلى مصر منذ أواخر العام 2020 على أن يعاد تصديره لأوروبا بعد تسييله).

- مراهنة إسرائيل على نجاح المفاوضات مع لبنان لإزالة أخطر العقبات الجيوسياسية من أمام مشاريعها المتوسطية للغاز. وهي تستند في ذلك إلى الضغط الذي تمارسه واشنطن على بيروت لتقديم تنازلات في عملية ترسيم الحدود البحرية، فليس صدفة ربط الوسيط الأميركي آموس هوكستين في زيارته الوداعية لبيروت، بين ملف الترسيم وملف استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية للبنان الغارق في الانهيار والعتمة.

ليست الولايات المتحدة وحدها، بل دخلت أوروبا على خط التسوية من خلال زيارة موفد فرنسي إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، كشفت عنها وكالة "مهر" الإيرانية لاحقاً، وقد جاء الموفد لإبلاغ حزب الله "بأن إسرائيل لم تصل عبر السفينة اليونانية إلى خط 29 "كاريش" المتنازع عليه مع لبنان"، برغم أن الموفد أصر على القول إنه " ليس مرسلاً من جهة إسرائيل". التحرك الفرنسي وإن جاء بهدف وقف التصعيد، فهو يعبر أكثر عن مأزق تعيشه أوروبا في إمدادات الطاقة، جراء ابتزاز بوتن، وقد وصل الأمر إلى حد قول مسؤولين أوروبيين خلال محادثاتهم مع نظرائهم الإسرائيليين، إنهم إذا لم يجدوا مصادر بديلة للغاز الروسي، فسيتّجهون إلى تعدين الفحم مرة أخرى، على الرغم من تأثيره البيئي. 

- الرعاية الغربية لمشاريع الطاقة الاسرائيلية فقد تبنّت الولايات المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 2019، قانون "شراكة الطاقة والأمن" لشرق المتوسط، الذي وضع اليونان وقبرص وإسرائيل في صلب الاستراتيجية الأميركية الجديدة في منطقة شرق البحر المتوسط. وبحسب تأكيدات كبار المسؤولين في الشركات المعنية بالتنقيب فإن: "الأميركيين مستعجلون لحل المسألة بين لبنان وإسرائيل"، إذ تريد أميركا بدورها تحرير أوروبا من سيطرة الغاز الروسي، وتأمين إمداد أوروبا بالغاز الإسرائيلي.

- بتحولها إلى دولة نفطية يتوفر لإسرائيل رافعةً جيوسياسية تغيّر مكانتها في الحلبة الدولية، وفق مسؤولين إسرائيليين، بل تكون تل أبيب قد حققت حلم مؤسسي الكيان العبري، بتحويل إسرائيل إلى دولة مصدرة للطاقة، وهو هدف سعت لبلوغه منذ نشأة الكيان عام 1948، ولطالما كانت تستورد النفط الخليجي وحتى الإيراني على نطاق واسع على الرغم من مقاطعة الاتصالات والتجارة مع إيران وغيرها، إذ تحصل إسرائيل على النفط عبر شركات أوروبية وسيطة.  

- تمتع إسرائيل بوضع مريح في المسار الدبلوماسي، سواء في المفاوضات غير المباشرة مع لبنان أو في المحافل الدولية، بينما يعاني لبنان الرسمي في الساحتين إرباكاً وتردداً سببهما الانقسام الداخلي حول خطوط الترسيم، وعدم توقيع رئيس الجمهورية المرسوم 6433 ليشمل الخط 29 الذي يجعل المساحة الواقع ضمنها حقل كاريش منطقةً متنازعاً عليها.  

في المقابل لبنانياً، كل الوقائع تشي بالذهاب إلى تسوية، تبدأ عناوينها من "فيينا" ولا تنتهي برفع العقوبات عن النائب جبران باسيل وشخصيات في فلك حزب الله الذي كان لافتاً تموضعه خلف الحكومة اللبنانية لدى إطلاق تهديداته لإسرائيل هذه المرة. فلا الحزب قادر على تكرار مغامرة العام 2006، فيما الجوع يطرق أبواب غالبية اللبنانيين، ولا إيران اللاهثة- كما إسرائيل- خلف فرصة الحصول على استثناءات من العقوبات الغربية لتتمكن من تصدير الغاز نحو أوروبا ولو على حساب "الحليف" الروسي، مستعدة لنسف كل ما تحقق في مفاوضات فيينا النووية، بالرغم من تجميد المسار حالياً.    

أما حكومياً، فثمة حرص من الجانب اللبناني على إعطاء فرصة للجهود الأميركية والأممية، تمثل بطلب لبنان رسمياً من الجانب الأميركي استئناف وساطته بهذا الخصوص، لاعتبارات عدة:

- تجنّبه مواجهة لا قدرةَ له على تحمل أكلافها الباهظة والمدمرة. وأبعد من ذلك، فإن مثل هذه الصفقة ستكون بمثابة ضوء أخضر أميركي لشركات الطاقة العالمية بالتوجه إلى المياه الإقليمية اللبنانية للتنقيب عن النفط والغاز وتصديرهما إلى أوروبا وغيرها، ليس فقط في البلوكات المتنازع عليها في الجنوب بل أيضاً في بلوكات الوسط والشمال المحظور على لبنان والشركات العالمية، دخولها حتى الآن. فقد ربطت واشنطن هذا الضوء الأخضر دائماً بتوصل لبنان وإسرائيل إلى اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما، وربما تكون بداية لاستعادة لبنان عافيته في ظل التقارير التي تتحدث عن اكتشاف حقول نفطية في المنطقة البحرية الإقليمية، الواقعة بين جبيل والبترون، هي من الأضخم في العالم.

- تركيز لبنان على مشروع " خطة التعافي الاقتصادية" إثر الانهيار التاريخي لمقومات الدولة، وتجنب نسف ما تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي في هذا الإطار، في أي مواجهةٍ غير محسوبة في الجنوب.

- تلميح بعض المسؤولين الحاليين والسابقين إلى وجود صفقةٍ ما – تحت الطاولة- بناءً على نصيحة غربية، تقضي بالتخلي عن الخط 29، والاكتفاء بالحصول على كامل حقل قانا، على أن يجري تفعيل العمل بباقي الحقول على طول الشاطىء اللبناني، علّ وعسى من البحر تكون قيامة لبنان من جديد.

- بمعزل عن تفاصيل الصفقة، إذا ما نجح لبنان باستخراج ثروته النفطية، يعني أنه نجح بفك عقدته التاريخية وشهد تدفق أول قطرة ولو بعد 69 سنة، من تدشين الرئيس كميل شمعون أول عملية تنقيب في البقاع عام 1953. وربما تأخر 96 سنة، أي منذ إصدار المفوض السامي (هنري دي جوفنيلHenry de Jouvenel) عام 1926 تشريعاً أجاز فيه التنقيب عن مناجم البترول والمعادن واستثمارها واستخراجها في لبنان.

وسط هذه الضبابية، ثمة من يقول بضرورة إبقاء هذا "الأمل" في قاع البحر، لئلا يصل إلى أيدي من بددوا "آمال البر" فتضيع آمال لبنان براً وبحراً.

 

*إعلامي وباحث أكاديمي     

 

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : ايكو وطن-eccowatan