كتب فادي عبود في ايكو وطن : التفاصيل... وأزمة الإدارة في لبنان
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : فادي عبود
Mar 28 25|19:37PM :نشر بتاريخ
التفاصيل، وما أدراكم ما هي التفاصيل! في لبنان، تبدو وكأنها ترفٌ لا يمتلكه السياسيون، بل حساسية تصيبهم كلما طُلب منهم التمعن في القضايا اليومية التي تمس حياة المواطنين. هذه الحساسية لا تقتصر على الطبقة الحاكمة فحسب، بل تمتد إلى جزء كبير من الشعب، وخصوصًا المثقفين الذين يرفضون المشاركة في العملية الانتخابية، لأنهم ببساطة لا يرون من يمثلهم. وهكذا، في حلقة مفرغة، تظل الشكاوى تتكرر دون حلول، والإصلاح يبقى مجرد شعار يُردد دون تطبيق.
في الأنظمة التي تحترم نفسها، يكمن جوهر النجاح في الاهتمام بالتفاصيل. الوزير الذي لا يهتم بالتفاصيل لن يستطيع إصلاح الإدارة، ولن يتمكن من تغيير الإجراءات العقيمة التي تجعل حياة المواطن جحيمًا. في لبنان، يفضل المسؤولون اتخاذ قرارات عامة وفضفاضة دون الغوص في العمق، لأن التفاصيل تعني المواجهة مع الواقع، وتعني محاربة الفساد المستشري في المؤسسات.
مثال بسيط ولكنه معبّر: عندما يُطلب وجود عناصر الدرك في شارع المطاعم في وسط بيروت بسبب فوضى ركن السيارات على خطين، واحتلال الأرصفة من قبل الفاليه والمطاعم والشحاذين، تأتي الدورية لكنها لا تغيّر شيئًا. يتحول رجل الأمن من منفّذ للقانون إلى شاهد زور على الفوضى، لأنها ببساطة أمر واقع لم يقرر أحد تغييره بجدية. هذه الحادثة ليست مجرد تفصيل بسيط، بل صورة مصغرة عن إدارة الدولة ككل: قرارات بلا متابعة، وإصلاحات تبقى حبراً على ورق.
لكن هذه ليست إلا البداية، فالمشاكل الحقيقية التي تنهك اللبناني يوميًا تكمن في تفاصيل أكثر تعقيدًا وخطورة. ماذا عن التاجر أو الصناعي الذي يستميت يوميًا للحفاظ على مؤسسته، بينما لا أحد يكترث لمأساته؟ هو مطالب بدفع رواتب موظفيه آخر الشهر، لكن المصارف تحتجز أمواله، والدولة غائبة عن أي حلول. عليه أن يصدر بضاعته، لكن الرسوم الجمركية والتعقيدات البيروقراطية تخنقه. يدفع فواتير الكهرباء التي أصبحت عبئًا لا يُحتمل، بينما لا يحصل إلا على ساعات قليلة من التغذية، فيضطر إلى تشغيل المولدات بتكاليف خيالية. يواجه منافسة شرسة من سلع مستوردة، تُغرق الأسواق أحيانًا بطرق غير شرعية، دون أي حماية من الدولة.
لجنة مرفأ بيروت... فضيحة لا أحد يتحدث عنها
وسط هذه الفوضى، هناك قضايا لا يتطرق إليها أحد، رغم أنها تمثّل فضائح من العيار الثقيل. على سبيل المثال، الأموال التي تجبيها اللجنة المؤقتة لإدارة مرفأ بيروت، والتي لا أحد يعرف أين تذهب. هذه اللجنة تفرض رسومًا مختلفة، مثل رسوم المرفأ على حسب نوع الحمولة، ورسوم الزرابة، وغيرها من الجبايات التي من المفترض أن تُرفَد إلى وزارة المالية. لكن الواقع أن اللجنة، منذ إنشائها، تصرف هذه الأموال على هواها دون أي حسيب أو رقيب.
من المفترض أن تعطي اللجنة 20% من دخلها لوزارة المالية، لكنها لم تفعل ذلك يومًا. بدلًا من ذلك، تقوم بصرف الأموال في مشاريع عشوائية، تردم مناطق ثم تعود لتنقبها، تشتري رافعات لا تُستعمل، وتوظف محسوبيات سياسية، بينما تتمتع باحتكار مطلق دون أي مساءلة أو تدقيق. إنها واحدة من أكبر الفضائح المالية في لبنان، ورغم ذلك، لا أحد يطرح الأسئلة الجدية حولها.
مرفأ بيروت: دوام جزئي وجباية دائمة
لا يتوقف الأمر عند سوء إدارة اللجنة المؤقتة، بل يمتد إلى تشغيل المرفأ نفسه. فمرفأ بيروت يعمل بدوام جزئي، مع أيام عطل لا تنتهي، مما يعطّل حركة الاستيراد والتصدير، ويؤثر سلبًا على الاقتصاد. ولكن الطامة الكبرى أن رسم التأخير (demurrage) لا يتعطل أبدًا! العدّاد يبقى شغالًا على المستوردين والمصدرين حتى لو كانت البضائع محتجزة بسبب سوء إدارة المرفأ أو إضرابات موظفيه. بمعنى آخر، التجار يدفعون ثمن فوضى الإدارة، والمستورد والمصدر اللبناني يتعرضان لـ"تشليح" ممنهج دون أي رادع قانوني.
الإصلاح في لبنان يبدو، في ظل هذا الواقع، أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة. عندما يكون المسؤولون غير معنيين بالتفاصيل، وعندما يعزف المواطنون عن المشاركة، تصبح الفوضى هي النظام، ويصبح التغيير سرابًا. لكن الأمل لا يزال موجودًا، شريطة أن يدرك المواطنون أن التفاصيل ليست ترفًا، بل هي الأساس الذي يُبنى عليه أي تغيير حقيقي.
لبنان بحاجة إلى من يدقق، من يسأل، من يُحاسب. وإلا، فسنستمر في الغرق في الفوضى، بينما يتفرج العالم علينا من بعيد.
اخيرا ، وبما خص الجدل القائم حول "كلنا ارادة " ، عندما انتقدنا "كلنا إرادة"، لم يكن ذلك جزءًا من الحملة الممنهجة التي نشهدها اليوم، والتي تثير الريبة. انتقادنا لـ "كلنا إرادة" انطلق من نقاش اقتصادي بحت، حيث نتحفّظ على بعض الأمور بسبب غموض آثارها الاقتصادية …
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا