خَطَأُ بارّاكَ وصوابه حَوْلَ قِطارِ دِمَشقَ ومَحطَّةِ بَيْروتَ المَهجورَةِ
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : انطوان العويط
Jul 15 25|09:11AM :نشر بتاريخ
كتب انطوان العويط في ايكو وطن:
في زَمَنِ التَّحوُّلاتِ الكُبرى، تَصعَدُ العَواصِمُ الَّتي تَجرؤ، وتَخبو تِلكَ الَّتي تُحجِمُ في لَحظَةِ القَرار. بَينَ دِمَشقَ الَّتيِ التَحَقَتْ بِقِطارِ المُنعَطَفاتِ البِنيويَّة، وبَيروتَ الَّتي ما زالَتْ جالِسَةً على أَرصِفَةِ محطّةِ الخَوفِ وَالانقِسام، يُخطِئُ توم بارّاك في التَّشخيصِ، لَكِنَّهُ يُصيبُ في التَّحذير.
يُفْهَمُ أن يُشيدَ الموفدُ الأميركي بخطواتِ دمشقَ المتسارعة، وأن يُبدي، في الوقتِ نفسِه، تحفّظَهُ الصريحَ حيالَ الموقفِ اللبنانيِّ المُترنّح بعد أن أثنى عليه (؟!) مُطلقًا جرس الإنذار من بقاءِ واقعِ السلاحِ غيرِ الشرعيِّ، ومُطالبًا الحكومةَ اللبنانيّةَ بتولّي زمامِ المبادرةِ لمعالجتِه.
لكن أن يبلغَ به الأمرُ حدَّ التهديد، حينَ قال إنّه إذا لم يَتَقَدَّم لبنان لمعالجةِ ملفّ سلاح حزب الله، فسيعود إلى بلادِ الشام، فإنّه بذلكَ ينزلقُ إلى مغالطةٍ تاريخيّةٍ وجغرافيّةٍ واستراتيجيّةٍ، تنسفُ الحدَّ الأدنى من المعرفةِ بكيانٍ اسمه لبنان.
فَبِلادُ الشّامِ اسمٌ تاريخيٌّ لِجُزءٍ من المَشرِقِ العَربيّ، يَمتدُّ على السّاحلِ الشّرقيِّ لِلبحرِ الأبيَضِ المُتوسِّطِ حتّى تخومِ بِلادِ الرّافدَين. وهي، في المفهومِ الحديث، تَشمَلُ سوريا ولبنانَ والأردنَ وفلسطينَ التاريخيّة، مع أطرافٍ حدوديّةٍ مجاورةٍ كالجوفِ وتبوك في السعوديّة، وبعضِ المناطقِ التي ضُمَّت إلى تركيا إبّانَ الانتدابِ الفرنسيّ، فضلًا عن أجزاءٍ من سيناءَ والموصل. ويَرى بعضُ الباحثين أنَّ هذا المدى يمتدُّ ليَشمَلَ قبرصَ وسيناءَ كلَّها، والجزيرةَ الفراتيّة.
وإذا كانَ المَقصودُ بِـ"بِلادِ الشّامِ" هو سوريا، فَكَيفَ يُقالُ إنَّ لُبنانَ سيَعودُ إلى بِلادٍ لم يَكُنْ يَومًا جُزءًا مِنها ولن يكون، لا في سِجِلّاتِ العصورِ القديمة في التوراة، ولا في سَوالِفِ العَصرِ والزَّمان، ولا في مَحطّاتِ التّاريخِ الحَديث والحاضر الأقرب؟
فَمِن أَيْنَ اسْتَقى بارّاك إذًا مَقولتَهُ تِلكَ، الّتي سُرعانَ ما تَراجَعَ عَنْها بِلُغَةٍ دِبلوماسيّةٍ مُرِنَة؟
الأرْجَحُ أنَّ هَدَفَهُ كانَ تَصعيدَ الضُّغوطِ على أَرْكانِ السُّلْطَةِ اللُّبنانيّةِ لِحَثِّهِم على التَّحرُّك. لَكِنَّهُ، وَهُوَ الخَبِيرُ بِخَريطةِ الهُوِيّاتِ، ارْتَكَبَ زَلّةَ العارِفِ حينَ خانَهُ التَّقديرُ في التَّوصيف.
لَقَدْ أَخطَأَ في تَهديدِهِ هذا بالتَّحديد، ولو أَصابَ في تَشريحِهِ لِلحالةِ اللُّبنانيّةِ بِنَبرَةِ التَّحذيرِ الحاسِم، وَكأنّه يتقصّدُ القول "الرِّزقَ السّايِبَ يُعلِّمُ الناسَ الحَرام".
فما لا خلافَ عليه هو أنَّ أهلَ السلطةِ في لبنان مُطالَبون بالاستفاقة، لا لأنَّ بارّاك قال، بل لأنّ هذا هو مطلبُ اللبنانيين وشرط بقاء الكيان، ولأنّ الإقليمَ يغلي، والتطوّرات تتدحرجُ بسرعةٍ غيرِ مسبوقة، أمّا هم، فغارقون في دوّامةِ مراوحةٍ مميتة، كأنّهم في سباتٍ عميق، أو موتٍ سريريٍّ مُعلَن.
وإذا أردْنا العودةَ إلى اللّحظةِ المِفصليّةِ من تاريخِ المنطقة، فالكلُّ يَجِدُ أنَّ دِمشق تَقِفُ على عَتَبةِ المُستَقبل، بينما يَكادُ يَقِفُ لُبنانُ عندَ حافَّةِ النِّسيان.
فمع سُقوطِ نِظامِ بشّارِ الأسد، وصُعودِ أحمدَ الشَّرع إلى سُدّةِ الرِّئاسة، دَخَلَت سوريا طَورًا استراتيجيًّا جديدًا، لا يُشبهُ ما قبلَه، لا في الشَّكلِ، ولا في الجَوهَر.
الحَدَثُ لم يَكُنْ مُجَرَّدَ تَنَاوُبٍ على السُّلْطَةِ، بَل انقلابًا في التَّمَوْضُعِ والخِطَابِ والتَّحَالُفَاتِ.
وإذا كانَ الصُّعودُ إلى هذا القطار قد تَمَّ بِرِعايةٍ أَميركيَّةٍ ـ سُعوديَّةٍ واضِحة، فإنَّ ما تلاهُ من اندِفاعةٍ دَوليَّةٍ نَحوَ دِمَشق، لم يَكُنْ مَحضَ صُدفة، بل ثَمَرةَ قِراءةٍ دَقيقةٍ لمَوازينِ القُوى، ولمَشروعٍ تُقَدِّمُه القِيادةُ الجديدةُ بوَصفِه استِجابةً عقلانيَّةً لمُتَغيِّراتِ الدَّاخلِ والخارِجِ معًا.
لقد أَعلَنَتْ هذهِ القِيادةُ برنامجَها لِسوريا مُنَزَّعَةِ الصِّدام، مُنْفَتِحَةً على الجِوارِ والعالَم، مُسْتَعِدَّةً لاتِّفاقيّاتٍ أمنيَّةٍ حتّى مع عَدُوِّها التاريخيّ، والأهَمُّ من ذلك، مُلْتَزِمَةً بإعادةِ بِنَاءِ الدَّولةِ على أُسُسٍ حديثة.
ولم يَكُنْ هذا التَّوجُّهُ مُجرَّدَ تَمرينٍ دِبلوماسيّ، بل كانَ مِفْتاحَ الدُّخولِ إلى نادي الاستِقرارِ الجديد، حيثُ تَتَقدَّمُ الدُّوَلُ بالمِلَفِّ النَهضويّ لا بِالشِّعارات، وبِالاقْتِصادِ لا بِالبَهْوَرات، وبِالمُؤَسَّساتِ لا بِالمِيلِيشِيّات.
في هذا الوَقْتِ بالتَّحديد، بَدَت بيروتُ وكأنَّها آثَرَت الغيابَ طَوعًا أو قَسرًا. ففيما كانتِ الجُغرافيّا السِّياسيَّةُ تَتشَكَّلُ مِن حَولِها على إيقاعِ تبدّلاتٍ عميقةٍ ومصيريّة، ظَلَّت هي مُتسمِّرةً في دَوامَةِ الاحجام والارتباك، جالِسَةً على أرصفةِ الانتظارِ المُوحِش، تُشرفُ على أطلالِ جُمهوريَّةٍ مشلّعة، وتُراقِبُ بصَمتٍ قطارَ التَّغييرِ وهو يَمضي دونَ أن يَلتفِتَ إلى المُتَرَدِّدين.
فَمُنذ أن أُعلِنَ وقفُ الأعمالِ العدائيّةِ فَجرَ الأربعاءِ، في السابعِ والعشرينَ من تشرينَ الثاني، ثُمَّ انتُخِبَ العمادُ جوزاف عون رئيسًا للجمهوريّةِ في التاسعِ من كانونَ الثاني، وتَشكَّلَت حكومةُ الرئيسِ نواف سلام في الثامنِ من شباط، ولبنانُ، ومعهُ العالَمُ، يَسمَعانِ بلا انقِطاعٍ عن قَرارٍ قِيلَ إنَّهُ اُتُّخِذَ لِحَصرِ السِّلاحِ، مِن دونِ أن يَرَيَا لَهُ تَرجَمةً في الواقِعِ المَلموس.
صحيحٌ أنَّ السُّلطةَ الجديدةَ حملت معها، وبوتيرةٍ سريعة، رغبةً حقيقيّةً في التغيير، غيرَ أنَّ غيابَ الموقفِ حيثُ ينبغي أن يُعلَن، وانعدامَ آليّةِ التنفيذِ حيثُ يُفترَض أن تُضبَط المسارات، جعلا لبنانَ يبدو كمن يسيرُ بخُطىً حثيثةٍ نحو المجهول، مُثقلاً بتأرجحِ مؤسّساته، فيما الدولةُ تتآكلُ، والقرارُ موزَّعٌ بين العجزِ والتلكّؤ.
غِيابُ الإقدامِ اللُّبنانيِّ في اللَّحظةِ الإقليميَّةِ الأَهَمِّ مُنذُ عُقودٍ، إنْ حَدَث، فلَن يَكونَ مُجرَّدَ سُوءِ تَقديرٍ، بَل تَعبيرًا فادِحًا عن أَزْمةٍ بُنيويَّةٍ في الرُّؤيةِ والشجاعة السِّياسيَّةِ. ففي وَقتٍ يَنشُدُ فيهِ اللُّبنانيُّون أوّلًا، وتُطالِبُ القُوَى الكُبرى ثانيًا، بإعادةِ تَحديدِ هُويَّةِ الدَّولةِ في لُبنان، على أُسُسِ حَصرِ السِّلاحِ في كَنفِها، واستِعادةِ قرارَيِ الحَربِ والسِّلمِ إلى مؤسَّساتِها الشَّرعيَّة، كمَدخلٍ إلى مَسارِ الإنقاذِ الشامل والنهوض الواعد، لا يَزالُ فِعلُ الدّاخلِ أَسيرَ تَدويرِ الزَّوايا والانكِفاءِ المُزمن.
لُبنانُ، للأسف، أضحى حالةً رماديّةً مُعلّقة، لا تنهارُ تمامًا، ولا تنهضُ فِعْلِيًّا.
المطلوبُ الآنَ الجُرْأَةُ على كَسْرِ الحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ، في وَسَطِ طَبَقَةٍ سِياسِيَّةٍ يَتَحَدَّدُ واجِبُها في التَّحَوُّلِ مِن لاعِبِي "طاوِلَةِ الزَّهْرِ"، حَيْثُ يَعْتَمِدُ الرِّهانُ عَلَى الحَظِّ وَالخُطُواتِ المُرْتَجَلَةِ، إِلَى مُحْتَرِفِي "الشَّطْرَنجِ"، حَيْثُ التَّخْطِيطُ الدَّقِيقُ وَالنَّظْرَةُ الاسْتراتِيجِيَّةُ.
لَقَدْ حانَ وَقْتُ اخْتِبارِ الإرادَةِ والحَسْمِ.
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا