كمال جنبلاط يخاطب أجيال المدارس: «أدبُ الحياةِ» النموذج والمثال والتربية الوطنية من هنا تنطلق

الرئيسية مقالات / Ecco Watan

الكاتب : فاروق غانم خداج
Dec 08 25|18:21PM :نشر بتاريخ

كتب الباحثُ في الأدبِ والفكرِ الإنسانيّ فاروق غانم خداج في ايكو وطن:

في ذكرى ولادةِ المعلمِ كمال جنبلاط، يعودُ فكرُه التربويُّ ليُضيءَ الأزمنةَ الصعبة، لا بصفته إرثًا سياسيًّا أو رمزيًّا فحسب، بل باعتباره منهجًا متكاملًا لبناءِ الإنسانِ وتحريرِه من الفوضى الداخليّة التي تعصفُ بزمنٍ فقدَ فيه الشبابُ البوصلةَ. ففي بلدٍ يرزحُ تحت الضغوطِ الاقتصاديةِ والاجتماعية، وتختلطُ فيه الهويّاتُ والولاءات، يبرزُ كتابُه «أدبُ الحياةِ» بوصفِه مشروعًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا ينطلقُ من الداخلِ ليعيدَ تشكيلَ الفردِ، ويمنحَه القدرةَ على أن يكونَ مواطنًا حرًّا ومسؤولًا، لا تابعًا ولا منساقًا وراء ضجيجِ اللحظةِ.

يرى جنبلاط أن الإنسانَ لا يُبنى بالعظاتِ النظرية، بل بالتربيةِ اليوميةِ التي تنطلقُ من تهذيبِ المشاعرِ أوّلًا، ومن تدريبِ الحواسِّ على التوازن، ومن إدراكِ قيمةِ الجسدِ باعتباره هيكلًا للروحِ. لذلك يقدّم في «أدب الحياة» رؤيةً للإنسانِ الكاملِ، القادرِ على ضبطِ دوافعِه، والتحكّمِ بلسانه، وتنظيمِ علاقاته ضمن احترامٍ متبادَلٍ يُراعي الإنسانَ الآخرَ مهما اختلفَ عنه. فالأخلاقُ ليست ترفًا، بل هي القاعدةُ التي تُشيَّدُ عليها المعرفةُ كلُّها. والمعرفةُ إذا خرجت من إطارِ الأخلاقِ تتحوّلُ إلى قوةٍ معطوبة، وربما مدمّرة، لأنها تفقدُ البوصلةَ التي تقودُها نحو خدمةِ المجتمعِ بدل تفتيتِه.

ويشددُ جنبلاط على أن التربيةَ الوطنيةَ ليست شعاراتٍ تُرفعُ خلال المناسبات، ولا نصوصًا تُكتبُ في الكتبِ المدرسيةِ، بل فعلًا يوميًّا يتجسدُ في احترامِ الوقتِ، وضبطِ الكلامِ، وعدمِ إيذاءِ الآخرِ، والقدرةِ على الإصغاءِ وإعطاءِ المساحةِ للزملاءِ المختلفين. فالانضباطُ الشخصيُّ هو مفتاحُ الانضباطِ الاجتماعيِّ، والصفُّ هو المختبرُ الأولُ للمواطنةِ؛ هناكَ يتعلمُ الطالبُ معنى الدورِ، ومعنى أن يكونَ جزءًا من جماعةٍ من دون أن يذوبَ فيها أو يهيمنَ عليها. ومن هذا المدخلِ، تصبحُ المسؤوليةُ الفرديةُ امتدادًا طبيعيًّا للمسؤوليةِ الجماعيةِ.

طلابُ لبنانَ اليوم يقفون أمام تحدياتٍ لم يعرفْها جيلٌ سابقٌ بهذا الحجم؛ فالتنمرُ، ووسائلُ التواصلِ، وضغوطُ الصورةِ، والقلقُ النفسيُّ، والهجرةُ الفكريةُ قبل الجسديةِ… كلها عواملُ تخلقُ هشاشةً داخليةً قد تمنعُ الشابَّ من بناءِ صورةٍ راسخةٍ عن ذاتِه. في هذا المناخ، يقدّم «أدبُ الحياةِ» أدواتٍ عمليةً لحمايةِ الروحِ من الانهيار: تهذيبُ الانفعالاتِ، وضبطُ الغضبِ، والامتناعُ عن السخريةِ، وفهمُ قيمةِ الكلمةِ وتأثيرِها، سواء قيلت في الواقعِ أو على الإنترنت. فالاحترامُ ليس موقفًا خارجيًّا فحسب، بل ممارسةٌ داخليةٌ يبدأُها الإنسانُ مع نفسِه قبل أن يقدّمَها لغيرِه.

ولا يكتفي جنبلاط بالحديثِ عن الأخلاقِ الفرديةِ، بل يربطُها بالمعنى العميقِ للعيشِ المشتركِ. فالحوارُ عنده ليس مجاملةً، بل تدريبًا على رؤيةِ الإنسانِ في الآخرِ. والاختلافُ ليس تهديدًا، بل شرطًا للإبداعِ. وحتى الصيامُ – كما يشرحه في كتابِه – ليس مجردَ امتناعٍ عن الطعامِ، بل تطهيرٌ للفكرِ من ضجيجِ الرغباتِ ليصبحَ العقلُ قادرًا على الحكمِ الصحيحِ. وهذه المفاهيمُ، وإن بدت بسيطةً، تؤسّسُ لوعيٍ مدرسيٍّ قادرٍ على مواجهةِ موجاتِ العنفِ اللفظيِّ والتنمرِ الرقميِّ التي تضربُ الأجيالَ الجديدةَ.

تحويلُ هذه المبادئِ إلى واقعٍ يحتاجُ إلى شراكةٍ بين المدرسةِ والمعلّمِ والبيئةِ التربويةِ. يمكنُ للمدارسِ أن تُدرجَ نصوصًا مختارةً من «أدبِ الحياةِ» ضمن الأنشطةِ الصفية، وأن تُشجعَ الطلابَ على كتابةِ تأملاتٍ قصيرةٍ حول معنى الاحترامِ وضبطِ النفسِ. ويمكنُ للمعلمين، كلٌّ من موقعِه، أن يوظّفوا فلسفةَ الكتابِ في تدريسِهم؛ فمدرّسُ العربيةِ قد يختارُ منه مقاطعَ تُظهرُ جمالَ اللغةِ، ومدرّسُ المواطنةِ يستخدمُه لشرحِ معنى الالتزامِ والمسؤوليةِ، بينما يسلّطُ مدرّسُ التاريخِ الضوءَ على أثرِ فكرِ جنبلاط في التجربةِ الوطنيةِ اللبنانيةِ، وعلى أهميةِ رؤيتِه في ظلّ الانقسامِ الطائفيِّ.

كما يمكنُ للوسائطِ الحديثةِ أن تلعبَ دورًا كبيرًا في إعادةِ تقديمِ هذه القيمِ للشبابِ. فإنتاجُ فيديوهاتٍ قصيرةٍ أو ملصقاتٍ مدرسيةٍ حول «كيف نكونُ مواطنين مسؤولين» وفقَ رؤيةِ جنبلاط يخلقُ أثرًا سريعًا وعميقًا في آنٍ. وبهذه الطريقةِ، يتحوّلُ الكتابُ من نصٍّ مكتوبٍ في منتصفِ القرنِ الماضي إلى دليلٍ حيٍّ يعالجُ مشاكلَ أطفالِ اليومِ ومراهقيهِم.

وقد أشارت بعضُ الإداراتِ المدرسيةِ في لبنان، ممن أدخلت مبادئَ «أدبِ الحياةِ» ضمن نظامِها السلوكيِّ، إلى انخفاضٍ واضحٍ في التنمرِ وارتفاعٍ في مستوى الانضباطِ والثقةِ بالنفسِ. وهذا يعزّزُ قناعةَ جنبلاط بأن الإصلاحَ الحقيقيَّ يبدأ من الإنسانِ، وأن كلَّ تغييرٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ يفشلُ ما لم يبدأْ من المدرسةِ، ومن طفلٍ يقفُ في الصفِّ محاولًا فهمَ معنى أن يكونَ محترمًا، ومهذبًا، وواعيًا لذاتِه وللآخرِ.

ويبقى السؤالُ الذي يطرحه جنبلاط سؤالًا مفتوحًا أمام الأجيالِ كلها: ما الخطوةُ الصغيرةُ التي يمكنُ لطالبِ اليومِ أن يقومَ بها ليكونَ أقربَ إلى «أدبِ الحياةِ»؟ هل يبدأُ بكلمةٍ طيبةٍ؟ أم بالامتناعِ عن جرحِ زميلٍ؟ أم بالمبادرةِ إلى النظافةِ والترتيبِ؟ إن كلَّ فعلٍ صغيرٍ هو حجرٌ في بناءِ المواطنِ الحرِّ الذي أراده جنبلاط، المواطنِ الذي يرى في أخيه الإنسانِ مرآةً لنفسِه، وفي وطنِه فضاءً يليقُ بالكرامةِ والحقِّ والخيرِ العامِّ.

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : ايكو وطن-eccowatan