في ساحة الشهداء… حيث تفرض علينا الذاكرة أن نرى الحقيقة كما هي
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : د. نهى الغصيني
Dec 10 25|12:28PM :نشر بتاريخ
كتبت الدكتورة نهى الغصيني في ايكو وطن:
لم تكن زيارة قداسة البابا إلى ساحة الشهداء حدثًا بروتوكوليًا أو كنسياً فقط، بل لحظة نادرة واجه فيها لبنان ذاكرته الحضارية وتاريخه السياسي وجراحه المفتوحة. ففي هذه الساحة بالذات حيث يُرسم، منذ قرن، العقد الاجتماعي المشترك ما بين اللبناني وعاصمته، بدت بيروت مكاناً يتحدث بصدقٍ لا تملكه الخطابات: بلا تجميل، بلا بروتوكول، وبلا مساومة.
وعلى بُعد خطوات من موقع اللقاء المسكوني ومكان إنفجار المرفأ المشؤوم ومدفن الشهيد دولة رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، يقف -وفق الجوامع والكنائس المحيطة - تمثال شهداء لبنان المثقّب بالرصاص، كأنّه ما زال يعيش الحرب، بما يحمل عنا من ندوب لم تعرف حتى الآن طريقها للشفاء: إنه شهادة على بلدٍ لا يزال عاجزًا عن التعلّم من مآسيه.
ساحة لا تموت… حتى في ذروة الدمار
لطالما أذهلتني ساحة الشهداء كمخطّطة عمرانية، لا بوصفها مساحة، بل ككائنٍ ينطق بما تعجز الدولة عن قوله. ففي كل مرة ينهض فيها الناس قبل أن ينهض العمران، كانت الساحة تذكّر بحقيقة أساسية: أن الساحة العامة هي الذاكرة التي تستعيد ذاتها حين يتخلّى عنها الآخرون.
واليوم، مع رفض الساحة أن تُختزل إلى مجرد نقطة عبور، وتمسّكها بدورها الأصلي كمكان وعي وذاكرة حيّة، يطرح السؤال الجوهري: هل تُعرَف المدن من هندستها أم من قدرتها على احتضان الإنسان؟
في عملي داخل سوليدير، ومسؤوليتي عن قسم المساحات العامة في مشروع إعادة إعمار وسط بيروت، عايشت هذا الدور بوضوح:عاد الناس إلى الساحة المدمَّرة قبل أن تنبض مخططاتها العمرانية بالحياة، وقبل أن تُرسَم حدودها من جديد. جلسوا على الحجارة المتناثرة، شربوا القهوة من عربات بدائية، وتفيّأوا ظلال نباتات برّية نمت وسط الخراب. كانت رسالة واحدة لا لبس فيها: الناس هم الذين يعيدون الحياة إلى المكان بأبسط ما يملكون وأكثره صدقًا، والذاكرة الجماعية لا تسمح له أن يموت.
واليوم في ساحة الشهداء… قداسة البابا أمام ذاكرة لبنان المفتوحة
أعاد لقاء قداسة البابا لاوون الرابع عشر في ساحة الشهداء إحياء موقع لطالما كان مرآةً للوجدان اللبناني. هذه الساحة- من “ساحة البرج” إلى “ساحة الشهداء” ثم “ساحة الحرية”- لم تكن يومًا نقطة محايدة في وسط المدينة، بل المكان الذي ينعكس فيه وجه الوطن في لحظات الفرح والانفجار، الحداد والتمرّد.
هنا عبّر اللبنانيون بكل مراحلهم: انتفاضاتهم، نكباتهم، أعيادهم المكسورة وأحلامهم المؤجّلة. وحدها هذه الساحة استطاعت جمع التناقضات وتحويلها إلى مشهد واحد، لأنها تحمل في حجارتها ذاكرة الشهداء من كل الطوائف، وتختزن في فراغها صدى اللقاء والانقسام معًا... ومن يقف فيها يشعر أنه أمام المساحة المشتركة الحقيقية التي يلتقي فيها اللبنانيون خارج اصطفافاتهم، لا تحت راية حزب أو طائفة، بل تحت راية المواطنة المجروحة… والرجاء المستمر.
اللقاء المسكوني: مواجهة مع المكان… ومع الذات
أمام كل هذا التاريخ المعلّق على حجارة الساحة، جاء اللقاء المسكوني- دون ادنى شك- لحظة استثنائية في تاريخ الوطن، يضعنا جميعاً، مسؤولين ومواطنين، أمام مرآة لبنان الحقيقية: مدينة لم تُشفَ، ذاكرة لم تُنقَّ، وشعبٌ ما زال واقفًا رغم كل التحديات.
هكذا اكتسبت كلمات البابا في هذا اللقاء عمقًا إضافيًا: فهو لم يأتِ ليمنح طمأنة عابرة، بل ليضع يده على جرحٍ مفتوح. دعا إلى “سلامٍ ليس مجرد كلمة، بل ورشة عمل دائمة”، وإلى مصالحة لا تقوم من دون حقيقة، لأن “الحقيقة والمصالحة تنموان معًا دائمًا". ورأى أن أزمة لبنان ليست أزمة اقتصاد وأرقام، بل أزمة ذاكرة تحتاج إلى شفاء؛ أزمة ثقة بين المواطن والدولة، بين الناس والحقيقة، بين الماضي والآتي.
ويبقى السؤال معلقاً ما بين صرخة ساحة الشهداء وضمير الدولة
المشهد واضح: مكانٌ رمزيّ لكنه مُعلّق، قادر على جمع اللبنانيين، لكنه يعجز عن جمع من يحكمونهم. أما قيمة الحدث فلن تُقاس بالصور ولا بالوفود، بل بما سنفعله بعد مغادرة البابا:
• هل نملك الشجاعة للانتقال من الاحتفال إلى مساءلة الذات؟
• هل نقدر أن نخرج من رمزية الساحة إلى فعل سياسي–اجتماعي حقيقي؟
• هل نستطيع أن نستمد من قداسة البابا شجاعة الحقيقة وتواضع الإصغاء وحكمة المصالحة للتحرر من موروثات الحرب الاهلية ووضع مصلحة الوطن فوق كل المصالح الأخرى؟
• هل نستطيع تحويل هذا اللقاء المسكوني، الذي جمع رؤساء الطوائف كافة، إلى فصل تأسيسي مبني على الحكمة، الحوار وتقبل الاخر ؟
• هل نبقى شعبًا يحتشد حين تُفتح الساحة… وسلطة تختبئ حين تتكلم الساحة؟ هل نبقى نعيد إنتاج الركام نفسه، في الحجر وفي السياسة، بينما ننتظر معجزة لا تأتي؟
ما بقي في الوجدان من قدسية أقوال البابا في اللقاء المسكوني في ساحة الشهداء
• الرجاء مسؤولية لا ترف: انها دعوة إلى لغة جديدة تعيد الإيمان التغيير ممكن، حين تتوافر الإرادة السياسية والشجاعة الأخلاقية والمواطنة الحقة
• لبنان رسالة لا دولة عابرة: وعلى اللبنانيين حماية فرادته وتعدديته كقيمة حضارية، لا كعبء سياسي أو مادة للمساومات.
• السلام عمل دائم لا احتفال عابر: لا يتحقّق بالخطابات، بل بالعدالة والمصارحة، وبمصالحة لا تقوم إلا على الحقيقة، بعيدًا عن ثقافة الطمس والنسيان.
• الحرية جوهر لبنان الذي “تكوّن بسبب الحرية ومن أجلها”، وأن أي تراجع عنها هو تراجع عن هوية البلد.
• الإصغاء قيمة سياسية قبل أن يكون قيمة روحية، وتواضع السلطة هو الخطوة الأولى نحو دولة قادرة على الشفاء وعلى إصلاح ما دمّرته سنوات الإنكار والانقسام.
وتتكشّف اليوم ساحة الشهداء بولادة جديدة، أكثر صدقًا من السلطة، قادرة على جمع ما تمزّقه السياسة: شعبٌ يستحقّ الحياة، ودولةٌ تحتاج شجاعة، وذاكرةٌ لا تُشفى إلا بالصدق.
فاللبنانيون أقوى من أزماتهم، لكن إن لم نتغيّر نحن، سيبقى الوطن أسير انقساماته.
لا مفرّ من دولة جديدة، وقيادات لا تخشى الحقيقة، وشعب لا يساوم على ذاكرته، ووطن يتوقّف عن دفن أوجاعه تحت الاحتفالات.
فالأوطان لا تُبنى بالشعارات، بل بالضمير والإرادة والقدرة على مواجهة الذات قبل مواجهة الآخر.
"طوبى لفاعلي السلام" — لا لمن يتقاعسون عن جعله حقيقة تحمي أحلام الشباب وتعيد للبنان دور الرسالة.
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا