سميح القاسم: حين صارت القصيدة وطناً وصار الشعر فعل مقاومة
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : فاروق غانم خداج
Dec 14 25|16:09PM :نشر بتاريخ
كتب الباحث اللبناني في الأدب والفكر الإنساني فاروق غانم خداج في إيكو وطن عن سميح القاسم شاعر الوجدان القومي ورمز المقاومة الفلسطينية
حين نقترب من تجربة سميح القاسم (11 مايو 1939 – 19 أغسطس 2014)، نجد أن الشعر بالنسبة له لم يكن كلمات على الورق فقط، بل حياة كاملة تتقاطع فيها الذات مع التاريخ، واللغة مع الأرض، والفن مع السياسة. من ولادته في الزرقاء بالأردن وطفولته في الرّامة بالجليل الأعلى إلى صموده أمام الاحتلال الإسرائيلي، شكّلت التجارب الشخصية والجماعية له أساساً لرحلة شعرية اتسمت بالصدق والوجدانية والمقاومة.
الطفولة والنكبة: ميلاد وعي شعوري وجماعي
ولد سميح القاسم في الزرقاء الأردنية لعائلة فلسطينية درزية، ثم عادت العائلة واستقرت في الرّامة في الجليل عام 1941. شهد النكبة الفلسطينية عام 1948 وهو في التاسعة من عمره، فواجه الاحتلال في تفاصيل حياته اليومية، من حضور الحاكم العسكري إلى تأثير اللغة والهيمنة على الحياة التعليمية والاجتماعية. لقد كانت هذه التجربة صدمة وجدانية شكلت وعيه المبكر بأن الكتابة يمكن أن تكون أداة مقاومة نفسية ووجودية، بل ووصف نفسه لاحقاً بأنه “المصدر الأكثر مصداقية في تاريخ هذه النكبة”.
الشعر كمقاومة وحياة جماعية
لم يكن سميح القاسم شاعراً فحسب، بل مقاوماً بالفكر والفعل. تعرض للاعتقال أكثر من مرة، وُضع تحت الإقامة الجبرية وطُرد من العمل بسبب نشاطه الشعري والسياسي. قاوم قانون التجنيد الإجباري الذي فرضته السلطات الإسرائيلية على أبناء الطائفة الدرزية، ما جعله من أوائل الرافضين لهذا القانون.
هذا الموقف لم يكن تمرداً فردياً فقط، بل تحوّل إلى موقف منظّم جعل من شعره قوة في الخطاب الوطني والقومي. كانت قصائده تُتلى في التجمعات الشعبية وتصبح جزءاً من الوعي الجماعي، في تجسيد واضح للشعر كفعل مقاومة يتجاوز الكلمة إلى الصمود الثقافي والاجتماعي. لقد ارتبط اسمه بأدب المقاومة الفلسطينية، إلى جانب شعراء مثل محمود درويش وتوفيق زياد، الذين يُنظر إليهم كجيل أو “رعيل” مهم في شعر القضية الفلسطينية.
تمازج فني بين القديم والحديث
في مستواه الفني، بدأ القاسم ملتزماً بالشعر العمودي وأوزانه التقليدية، لكنه مع تطور تجربته الشعرية تحرر تدريجياً من القيود الشكلية دون أن ينكرها، وتوجه نحو ما أسماه “السربيات” — نصوص شعرية مطوّلة تحمل طابعاً ملحمياً.
تميز أسلوبه بعدة عناصر فنية، أبرزها:
التناص: توظيفه نصوصاً دينية وأساطير (قرآنية، توراتية) ومن ثم إعادة توظيفها بمعانٍ تتصل بالواقع الفلسطيني.
التكرار: أسلوب فني مؤكّد للأفكار، يضفي إلحاحاً على الصورة الشعرية ويؤكّد موضوعاتها.
هذا المزيج الفني جعل نصوصه قادرة على مخاطبة القارئ التقليدي والحديث معاً، فكانت قصائده لغة عالمية للحرية والكرامة، تتجاوز الحدود المحلية لتُقرأ عالمياً.
تحليل تطبيقي: قصيدة “تقدموا”
قصيدة “تقدموا” مثال واضح على فلسفته الشعرية، وتُظهر موضوع الصمود والكرامة كمحور مركزي في نصه الشعري. باستعمال لغة بسيطة لكنها قوية الدلالة، تجعل القارئ شريكاً في حركة المقاومة، إذ إن التكرار في النص ليس فقط تحفيزاً، بل نداء جماعياً يربط الفرد بالمجتمع، والحاضر بالمستقبل.
القصيدة تتعامل بعمق مع الزمن والموت؛ فرغم الركام تظل الكلمة حية، وتصبح القصيدة رؤية وجدانية للحياة والمقاومة والحرية، وليست مجرد خطاب وطني عابر.
النشاط السياسي والإعلامي والإرث
إلى جانب الشعر، كان القاسم صحفياً وناشطاً سياسياً بارزاً. وصدر له أكثر من 70 كتاباً تشمل الشعر والنثر والمسرح والترجمة، وترجمت أعماله إلى عشرات اللغات العالمية، ما جعله واحداً من أبرز الأصوات الفلسطينية والعربية التي عبرت عن القضية الإنسانية في سياق المقاومة والطموح الوطني.
حصل القاسم على العديد من الجوائز والتكريمات، منها جوائز دولية في الشعر والترجمة، وأوسمة تقدير من مؤسسات ثقافية عربية ودولية، مما يعكس تقديراً واسعاً لإبداعه وأثره الثقافي والسياسي.
الختام: الكلمة والسِّلاح
توفّي سميح القاسم في صفد بعد صراع مع المرض ودفن في قريته الرّامة. لقد ظلّ حتى آخر يوم من حياته يؤمن بأن الكلمة قادرة على تغيير الواقع، وأن الشعر يمكن أن يكون سلاحاً للروح ضد القمع والاغتراب. إرثه يبقى نافذة لفهم تجربة الإنسان الفلسطيني والعربي في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ومثالاً ساطعاً على العلاقة العضوية بين الشعر والحياة، بين الوجدان والمقاومة.
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا