تكريم طليع حمدان في الأونيسكو: الزجل اللبناني يسطع في وجدان الوطن

الرئيسية مقالات / Ecco Watan

الكاتب : فاروق غانم خداج
Dec 21 25|17:55PM :نشر بتاريخ

كتب الباحث اللبناني في الأدب والفكر الإنساني فاروق غانم خداج في ايكو وطن عن تكريم طليع حمدان:

في مساء العشرين من ديسمبر 2025، احتضن قصر الأونيسكو في بيروت حفل تكريم استثنائي للشاعر اللبناني الكبير، طليع حمدان. لم يكن الحدث مجرد مناسبة رسمية يُمنح فيها وسام، بل كان احتفاءً بذاكرة شعبية حية، واستعادةً لزمن شعري أصيل. غمر المكان عبق لبنان القديم: قراه ووديانه، وجباله التي تختزل قصص الأجداد، في مشهد يشعر الحاضرون فيه بأن الكلمات ليست مجرد حروف، بل جسور تصل بين الحاضر والماضي.
طليع حمدان لم يكن شاعراً عادياً؛ كان نبض الشعب ومرآة وجدانه الجمعي. في زجله تحوّلت الكلمات إلى كائنات حية تحمل حرارة المشاعر الإنسانية في أبهى صورها: دموع الفرح والحزن، همّ الوطن المشترك، وتفاصيل حياة الناس البسطاء. في قصائده، تلتقي الأرض بالجبل والإنسان في مشهد شعري متكامل، حيث تتجاوز اللغة حدود التوصيل لتصبح مصافحة للروح. ورغم رحيله الجسدي، ظل صوته يتردد في القلوب، حاملاً إرثه الثقافي والعاطفي للأجيال.
كان جوهر هذا الوفاء حاضراً بقوة في الأبيات التي ترددت على ألسنة الحاضرين، والتي تجسّد رؤيته التوحيدية التي تتجاوز المذاهب والأديان إلى فضاء الانتماء الأرضي والإنساني المشترك:
"كون مسلم بالوفا معجون
ودرزي وروم وكون موراني
ما همني دينك شو بدو يكون
البهمني تحافظ على لبنان
ويكون دمك دم لبناني"
انطلق الحفل عند الخامسة مساءً، وملأ دفء الذكرى أروقة القصر. الحضور كان كثيفاً بشكل مذهل، فقد ملأت الحشود الشعبية القاعة جلوسًا ووقوفًا، في مشهد يعكس الحب الكبير الذي يكنّه اللبنانيون لطليع حمدان وللتراث الزجلي عامة. شعر الحاضرون وكأنهم يسافرون في آلة زمن إلى عصر الصدق الشعري، حيث تكون الكلمة جسراً بين القلوب قبل أن تُسجّل على الورق.
وقد أضفى المتكلمون أبعادًا وجدانية مختلفة على الحفل، كلٌ بطريقته الخاصة. الشيخ نزيه صعب جاء بالكلمة الحكيمة التي تحمل دفء الانتماء والوفاء لتراث طليع الزجلي، فيما استحضر الشاعر أنطوان سعادة ذكريات الطفولة الأولى للزجل اللبناني مع طليع، مجسّدًا لحظات صافية من صوته الذي يظل حيًا في الوجدان.
قدم الروبورتاج الموجز لمحات بصريّة مؤثرة عن حياة الشاعر، فتجلّت أمام الحضور صور الماضي وصدى كلماته. الشاعر شوقي بزيع ألهب الحماس، وعزف على أوتار المشاعر بأبياته، بينما أضاءت الوزيرة الدكتورة منال عبد الصمد وسعادة النائب أكرم شهيب ومعالي وزير الثقافة غسان سلامة على البعد الرسمي للتكريم، موضحين قيمة الإبداع الشعبي في الثقافة الوطنية.
وفي ذروة العواطف، تقدمت سحر، ابنة الشاعر، لتلقي كلمة العائلة. كانت كلماتها مشبعة بالحنين والفخر، وصوتها يرتجف بين الذكريات، فشعر الحضور جميعًا وكأن طليع حمدان حيّ بيننا، يبتسم في الزوايا ويهمس في القلوب، مؤكّدًا أن إرثه مستمر وأن صوته لا يزال يتردد في كل بيت لبناني.
تضمن البرنامج شهادات مؤثرة من شعراء وأصدقاء، رووا كيف كانت كلمة طليع تحفر في الوجدان قبل الصخر، وكيف استطاع بصوته الزجلي أن يعكس نبض الشارع وهمومه وآماله، محوّلاً البساطة والفطرة النقية إلى ملحمة تعكس روح المجتمع بأصدق صورها.
وصلت الذروة مع الأداء الحي لأبياته، حيث عاد صوت الزجل الخام، الأصيل، ليرنّ في أروقة القصر، حاملاً الحضور في رحلة عبر المشهد اللبناني. ومن الأمثلة على إبداعه الشعري وإيقاعه الموسيقي، أبيات غناها الفنان جورج وسوف قديماً:
"ليلة وداعك بكيت النايات
وغنت معي عا لحن يا ويلي
رايحة ويا جوعة الغمرات
عا خصر لفو الزنبق شميلي..."
وبجانبها، أبيات أخرى تستحضر الطبيعة اللبنانية بكل جمالها:
"السلام عليك يا ليل التچلي
يا لابس ظل أبيض مثل ظلي
بعتم الفيك نورك صار ينزل
كأنوا البدر نازل بالمظلي
سمع تله عم تقلو تفضل
ووادي عم يقلو طل طلي
انربط زنار عالخصر المدلل
وهدي ما بين وادي وبين تلة؛"
ولم تكن عبقرية حمدان محصورة في قصائده المنفردة، بل تجلت أيضاً في منافساته الزجلية التي أهّلته ليُنعت بـ"أمير المنبرين"، كما في أبياته من حفلة بيت مري في السبعينيات:
"مع احترامي لشعر موسى وشعر زين
وزغلولنا الإسمو شمخ عالفرقدين
بعد بتجي الايام عهالجوقتين
وبدكم تشوفوني امير المنبرين"
وفي لحظة رمزية بالغة الدلالة، أعلن وزير الثقافة اللبناني عن منح طليع حمدان وسام الأرز الوطني برتبة ضابط. هذا التكريم الرسمي تجاوز قيمته المادية ليكون إقراراً من الدولة بقيمة المبدع الشعبي، وجسراً بين المؤسسة والوجدان الجمعي.
غادر الحاضرون وهم يحملون إحساساً متجدداً بأن التراث الزجلي ليس فناً هامشياً، بل تعبيراً مركزيًا عن الهوية الوطنية، ومعادلاً شعرياً للوطنية الحقيقية. إنه اللغة التي تجمع اللبنانيين على اختلافهم، وتعيد لهم شعورهم بوحدة المصير والذاكرة.
إن تكريم طليع حمدان في قصر الأونيسكو لم يكن حدثاً ثقافياً عابراً، بل تأكيداً على دور الشعر الشعبي كحافظ للذاكرة وصانع للهوية. في زمن يتسارع فيه العالم نحو التعقيد والاغتراب، يذكّرنا هذا التكريم بأن الجذور تظل مصدر القوة، وأن الكلمة البسيطة والصادقة قادرة على أن تكون ملاذاً ومرجعاً. بين أروقة القصر، اكتملت الدائرة: من الشعب إلى الشاعر، ومن الشاعر إلى الدولة، ومن الدولة إلى الشعب مجدداً، وظل صوت طليع حمدان يتردد، ليبقى حيّاً في وجدان الأجيال، رمزاً للوفاء والحب والانتماء، وزرعًا دائمًا للفخر بالهوية اللبنانية والثراء الشعري للزجل.

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : ايكو وطن-eccowatan