سعيد تقي الدين: حين يصبح الأدب شجاعةً أخلاقية
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : فاروق غانم خداج
Dec 28 25|12:03PM :نشر بتاريخ
كتب الكاتب اللبناني والباحث في الأدب والفكر الإنساني فاروق غانم خداج عن سعيد تقي الدين في ايكووطن :
سعيد تقي الدين.. الرجل الذي حوّل الكلمة إلى ضمير. ماذا لو كان الأدب شجاعةً أخلاقية قبل أن يكون فنًا؟ وماذا لو كانت السخرية سلاحًا للكشف والمقاومة؟ هذه أسئلة حياة وكتابة الأديب والمسرحي الذي امتلك ندرة الموقف وصدق الرؤية.
بعيدًا عن أبراج العاج والصالونات الأدبية، انبثق صوته من قلب المعاناة اليومية وتجربة الحياة. من بعقلين "عاصمة الدنيا" إلى العالم، حمل أخلاقًا لا تعرف المهادنة، ورأى في الأدب مسؤولية، وفي المواطن "خفيرًا" يقظًا للقيم. نقرأه اليوم ليس بدافع الحنين، بل بدافع الحاجة إلى عقول من طرازه: ترى بعيدًا، تضحك بمرارة، وتصرّ على أن الأخلاق شرط وجود، وليست زخرفًا.
لم يكن سعيد تقي الدين أديب صالونات أو كاتب برج عاجي. عاش ستة وخمسين عامًا، إلا أن أثره بدا أطول وأكثر كثافة من أن يُختزل في سيرة أو قائمة مؤلفات. كان حالة فكرية وأدبية وإنسانية، تمرّ في التاريخ وتترك صدى لا يهدأ، ليس لضجيجها، بل لعمق معناها، وكأن روحه تتنفس في كل نص كتب وفي كل موقف اتخذه.
ولد في بعقلين عام 1904، وتلقى تعليمه المبكر قبل أن ينتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت، حيث صقل معارفه الفكرية والثقافية. منذ شبابه انخرط في الشأن العام والثقافي، دون فصل بين الثقافة والمسؤولية، بين الأدب والموقف الاجتماعي، وكأن جذوره كانت تطالب بأن يكون لكل كلمة وزنها ولكل فعل أثره.
اضطرت به الحياة إلى الهجرة والعمل في التجارة والأعمال، لكنه لم يرَ في ذلك تناقضًا مع الكتابة، بل شرطًا لها. كان يرى أن الأدب الذي لا يمرّ عبر اختبار الحياة اليومية يبقى ناقصًا، وأن الكلمة التي لا تُدفع ثمنًا لا تكتسب معناها الكامل. لذلك جاءت كتاباته مشبعة بالتجربة، حادة أحيانًا، ساخرة غالبًا، لكنها دائمًا مشدودة إلى الإنسان ككائن أخلاقي قبل أي شيء آخر.
في مسرحه، كما في قصصه ومقالاته، لم يكن يبحث عن البطولة الفردية، بل عن لحظة الوعي التي ينتقل فيها الفرد من كونه "قطرة" إلى كونه "نهرًا"، كما عبّر في مسرحية «المنبوذ». الفرد لا يكتمل إلا بانخراطه في قضية عامة، والمجتمع لا ينهض إلا حين تتحول القيم من شعارات إلى ممارسة، من كلام إلى فعل، وكأن كل موقف صغير يضيف موجة في بحر العدالة والضمير.
سخريته لم تكن تهكمًا فارغًا، بل أداة كشف ومقاومة. حين رفع شعار "كل مواطن خفير"، لم يكن يدعو إلى دولة بوليسية، بل إلى مواطن يقظ ومسؤول، يمتلك أخلاقًا رفيعة وثقافة واسعة. وحين قال إن لبنان له ثلاث دروب سياسية: الحكومة والمعارضة، والصراط المستقيم، كان يضع إصبعه على جرح مستمر: الخلط بين المصلحة والمبدأ، بين السلطة والقيمة.
الفصل الصارم بين العام والخاص، بين النضال والمصلحة، بين السياسة والعيش، كان جزءًا من شخصيته. كان يعرف أن فساد الحياة العامة يبدأ حين تختلط الحدود، وحين تُستباح القيم باسم الضرورة. لذلك يبدو اليوم، بعد عقود على رحيله، كأنه كاتب معاصر، لا لأن الزمن لم يتغير، بل لأن عللنا لم تُحل، وكأن روحه ما زالت تمشي بيننا، تهمس بأن الانحراف الأخلاقي أقصر الطرق إلى الخراب.
علاقته بوالدته تكشف جانبًا آخر من إنسانيته. ذلك الإهداء المؤثر الذي كتب فيه إليها بوصفها "بعض الله" ليس مبالغة عاطفية، بل اعتراف بجذر أخلاقي عميق. الأم هنا ليست فردًا فقط، بل رمز العطاء الصامت، والزراعة التي لا تنتظر ثمارها. الكتب التي كتبها لم يشهد أثرها كلها، ومع ذلك كان يعرف أن الفعل الصادق لا يُقاس بزمن صاحبه، بل بامتداده.
انتماؤه إلى النهضة جاء بعد أن صنع اسمه الأدبي، تعبيرًا عن قناعة فكرية، لا بحثًا عن منصة أو حماية. كان يريد خلاصًا جماعيًا، عقلنة الحضارة، علمنة المجتمع، وتحويل القيم إلى سياسة، لا إلى خطب. التزامه امتداد طبيعي لأدبه، وكأن الأدب والمجتمع كانا قلبًا واحدًا ينبض بالضمير.
لم يكن بريئًا ساذجًا، بل واعيًا لقسوة العالم وتناقضاته. ومع ذلك، اختار الأمل بوصفه فعل مقاومة. منحنا هبة الضحك على هذا العالم، لتجاوزه لا للهروب منه. علمنا أن السخرية شكل من أشكال الشجاعة، وأن الكلمة الصادقة تستطيع أن تكون موقفًا يضيء في ظلمة الأيام.
كتب أكثر من 24 كتابًا، منها 13 أنجزها في حياته، و11 أصدرها الباحث جان دايه بعد وفاته، من أبرزها: حفنة ريح، المنبوذ، وسقط سهواً. هذه الأعمال لم تعد نصوصًا أدبية فقط، بل مواقف فكرية وأخلاقية تحاكي القارئ اليوم كما حاكت معاصريه.
نقرأه فنشعر أن العمر قد يشيخ، لكن العقل الحر يبقى في ذروة شبابه. سعيد تقي الدين حاضر معنا، كقلعة تمشي، وكجبل ينظر، وكطائر حكيم يذكّرنا بأن حكاية الإنسان هي حكايته مع الكلمة والمعنى والشجاعة على أن يكون نفسه.
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا