كتب فاروق خداج في إيكو وطن:شوقي حمادة... رحيل قامةٍ أثْرَت المكتبة العربية
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : محرر الصفحة
Sep 28 25|11:42AM :نشر بتاريخ
كتب فاروق غانم خداج : بهدوءٍ يشبه مسيرته، غادرنا الأستاذ شوقي اليوسف حمادة، تاركًا وراءه صرحًا شامخًا من الفكر والأدب واللغة. رحل الجسد عن عمر يناهز 85 عامًا، لكنّ إرثه الذي بناه بعزيمةٍ صافية وإيمانٍ عميق بقيمة المعرفة، سيظل حيًا ينبض في مؤلفاته، وفي ذاكرة الوطن العربي الذي خسر برحيله أحد حرّاس لغته وذاكرته الأوفياء.
النشأة: من جنائن الشوف إلى منابع الثقافة
في أحضان بلدة بعقلين في منطقة الشوف، حيث تتعانق روائع الطبيعة مع عراقة التاريخ، وُلد شوقي اليوسف حمادة. هناك، في تلك البيئة التي تتنفس ثقافة وتاريخًا، نما في كنف أسرة عُرفت بحفظ التراث والتمسك بالقيم الأصيلة. لم تكن بعقلين مجرد مكان على الخريطة، بل كانت منبعًا أوليًا اغترف منه حب اللغة العربية وآدابها، فتشكلت لديه هويةٌ ثقافيةٌ واضحة المعالم منذ الصغر.
أتم دراسته الأساسية في مدارس الشوف، التي كانت تُعنى بالتعليم العميق للغة العربية، لينتقل بعدها إلى العاصمة بيروت، حيث اكتملت مسيرته التعليمية في معاهد وجامعات المدينة التي كانت تُعرف آنذاك باسم "باريس الشرق". وبعد ذلك، واصل الأستاذ حمادة دراسته العليا في الأزهر الشريف بالقاهرة، حيث نال شهادة الماجستير في العلوم اللغوية والإسلامية. هذه الدراسة أكسبته معرفةً عميقة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وزودته بالأدوات الضرورية ليكون محققًا ومؤلفًا بارزًا في التراث العربي والإسلامي.
المسيرة: مدرسًا ومُعلّمًا للأجيال
لم يكن شوقي حمادة مدرسًا عاديًا يقف عند حدود المنهاج. كان أبًا روحيًا لطلبته، ومُحبًّا للغة يزرع شغفها في نفوسهم. نقل معرفته إلى أجيالٍ متعاقبة في عدد من المدارس والمعاهد، فكانت حصصه سجالاً فكريًا وورشةً حيةً لتفكيك نصوص التراث وفهم بلاغة القرآن الكريم وأسرار اللغة. لم يكتفِ بتعليم القواعد النحوية الجافة، بل علمهم كيف تكون العربية وعاءً للفكر ومرآةً للهوية. كثيرون من تلامذته، الذين أصبحوا اليوم أطباء ومهندسين وأدباء، يحملون في ذاكرته صورة المعلم الحكيم الذي كان يفتح أمامهم آفاقًا جديدةً للتفكير.
تحليلًا، يمكن القول إن أسلوبه في التدريس لم يقتصر على نقل المعلومات، بل كان يعتمد على منهجية التفكير النقدي والتحليل اللغوي، مما أكسب الطلبة قدرة على معالجة النصوص بعمق، وفهم السياق التاريخي والأدبي لكل نص. وهكذا، فإن تأثيره على الأجيال لم يكن مؤقتًا، بل استمر في تكوين باحثين ومفكرين قادرين على إنتاج معرفة جديدة.
الإسهامات الأدبية واللغوية: محققًا وباحثًا.. حارسًا على ذاكرة الأمة
إذا كان التدريس هو الجسد الذي من خلاله نقل علمه، فإن التحقيق والتأليف كانا روح إسهامه الخالد. انصبّ شغف الأستاذ حمادة على التراث العربي الإسلامي، ورأى في المخطوطات القديمة كنوزًا مهجورة يجب إحياؤها. فانكبّ على تحقيق عددٍ مهمٍ منها، بمزيج نادر من الصبر العلمي والدقة المنهجية والأمانة التاريخية.
لم يكن تحقيقه مجرد نقل للنص من خط قديم إلى طبعة حديثة، بل كان مشروعًا متكاملًا: شرحًا للغريب، وتوثيقًا للشواهد، وتتبعًا لسيرة المؤلفين، ودراسةً للنص في سياقه التاريخي والأدبي. من خلال هذا العمل الدؤوب، ساهم في إعادة إحياء نصوصٍ كانت على شفا الاندثار، مضيئًا زوايا مظلمة في تاريخنا الفكري، ومثبتًا مكانته كأحد أبرز المحققين اللبنانيين الذين احترفوا هذا الفن الدقيق.
تحليليًا، يمكن ملاحظة أن تحقيقاته تجاوزت مجرد التوثيق، لتصبح أداة لفهم الفكر العربي والإسلامي عبر العصور، وهو ما يجعل أعماله قيمة للباحثين في علوم اللغة، التاريخ، والأدب، إذ يربط بين النصوص التراثية والحاجة المعاصرة لفهم تطور اللغة والفكر.
أبرز مؤلفاته
معجم عجائب اللغة: موسوعة لغوية فريدة من نوعها، تستعرض عجائب اللغة العربية من خلال تحليل الأوزان اللغوية، الاشتقاق، والتراكيب، وتتناول الكلمات الدخيلة والمصطلحات العلمية، لتصبح مرجعًا مهمًا للباحثين والمهتمين باللغة العربية.
عجيب اللغة: نوادر ودقائق ومدهشات علمية: يقدم الكتاب مجموعة من الظواهر اللغوية النادرة والمدهشة، مقدمًا للقارئ معلومات علمية دقيقة وممتعة حول اللغة العربية.
رسائل علمية وأدبية: يجمع بين البحث العلمي والتحليل الأدبي، حيث يتناول موضوعات لغوية وأدبية متنوعة بأسلوبه المميز، ليكون مرجعًا لكل من يهتم بالتحليل الأدبي واللغوي في آن واحد.
التكريم: إكليل الغار المتأخر.. وتخليدٌ للاسم
في السنوات الأخيرة من حياته، بدأت الأوساط الثقافية الرسمية والأهلية تفيء إلى حجم ما قدمه هذا الرجل. فكان التكريم تجسيدًا للاعتراف بالجميل، وإن جاء متأخرًا بعض الشيء. كان أبرز هذه المحطات التكريم الذي حظي به في مكتبة بعقلين الوطنية، بحضور شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، الشيخ سامي أبي المنى، ووزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى.
لم يكن هذا التكريم مجرد حفل عابر، بل تحول إلى إرثٍ مستدام؛ حيث أُطلقت باسمه "جائزة شوقي اليوسف حمادة الأدبية السنوية". هذا القرار لم يكن فقط لتخليد اسمه، بل لتشجيع الأجيال الجديدة على السير على دربه، والانكباب على البحث العلمي والأدبي، ضمانًا لاستمرارية المشروع الثقافي الذي كرّس له حياته.
الوداع: رحيل الجسد.. وبقاء الأثر
برحيل الأستاذ شوقي اليوسف حمادة، تطوي الساحة الثقافية في لبنان والعالم العربي صفحةً مشرقةً من صفحاتها. لقد كان نموذجًا للمثقف العضوي الذي يعمل في صمت، بعيدًا عن الأضواء والصخب، مقتنعًا أن بناء العقول هو أعظم إنجاز.
رحل الرجل، لكنه ترك لنا مكتبةً غنيةً بمؤلفاته وتحقيقاته، وترك مثالاً يُحتذى في التواضع والعطاء والإخلاص للعلم. ستظل كلماته نبراسًا يهدي الدارسين، وستظل سيرته تذكرنا أن الأوطان تُبنى ليس فقط بالحجر، بل بالكلمة الصادقة والعلم النافع. إلى رحمة الله.. أيها الأستاذ الجليل، لقد أديت الأمانة.
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا