خليل تقي الدين... المفكر الذي جعل من الكلمة وطناً

الرئيسية مقالات / Ecco Watan

الكاتب : د. فاروق غانم خداج
Nov 02 25|19:29PM :نشر بتاريخ

كتب د. فاروق خداج في ايكو وطن:
في تاريخ لبنان الثقافي، تبرز أسماء قليلة استطاعت أن تجمع بين الفكر والضمير، بين الأدب والوظيفة العامة، وكان خليل تقيّ الدين أحد أولئك الذين جعلوا من الكلمة رسالة، ومن الفكر ضميرًا للوطن. ولد في بعقلين سنة 1906 في بيت يفيض أدبًا وكرامة، إذ كان من أقاربه الشاعر أمين تقيّ الدين، أحد أبرز محرّري مجلة الزهور التي أسّسها أنطون الجميل في القاهرة مطلع القرن العشرين. تلقّى خليل علومه الأولى في قريته، ثم درس الحقوق في الجامعة اليسوعية في بيروت، فجمع بين الدقّة القانونية وحسّ الأدب الرفيع.

دخل الحياة العامة من بوابة الدبلوماسية، فعمل في السلك الخارجي متنقّلًا بين عدد من العواصم، لكنه ظلّ في داخله أديبًا متأمّلًا أكثر منه إداريًّا. فالقانون عنده لم يكن نصًّا جامدًا بل تعبيرًا عن العدالة في معناها الإنساني، وكان يرى في الفكر وسيلة لإنقاذ الإنسان من جفاف الواقع. كتب في الصحافة اللبنانية والعربية، ونشر مقالاتٍ تجمع بين التحليل الاجتماعي والنزعة الفلسفية، في أسلوب يتّسم بالرصانة والصفاء.

تميّز تقيّ الدين بقدرته على النظر إلى الأدب بوصفه وسيلةً لبناء الإنسان. لم يكن يكتب ليرضي ذوقًا عابرًا، بل ليوقظ في القارئ ضميرًا غافلًا. وقد تجلّت هذه الرؤية في أعماله القصصية والمقالية، حيث مزج بين الواقعي والرمزي، وبين الحكاية والفكرة، في لغةٍ لبنانية النكهة، عربية الجذر، إنسانية الأفق. كانت روايته "العائد" انعكاسًا لتلك الرؤية؛ إذ تناول فيها فكرة التقمّص كما تظهر في التراث الروحي اللبناني، لا كعقيدة جامدة، بل كرمز لاستمرار التجربة الإنسانية عبر الأزمنة.

انتماؤه إلى عصبة العشرة، تلك الجماعة الأدبية التي نشأت في بيروت في الثلاثينيات، وضعه في قلب النهضة الثقافية اللبنانية الحديثة. فقد كان معاصروه من كبار الأدباء والمفكرين، من أمثال ميخائيل نعيمة وعمر فاخوري وأمين نخلة، لكنّه ظلّ يحتفظ بفرادةٍ خاصة، إذ جمع بين صرامة الفكر الديني عند الموحدين الدروز، وانفتاح الإنسان على الآخر المختلف. لذلك جاءت كتاباته مزيجًا من التأمل الأخلاقي والرؤية الاجتماعية، يعبّر فيها عن قلق الإنسان في مواجهة العالم المادي المتغيّر.

في كتبه المقالية، وخصوصًا في "خواطر ساذج" الذي صدر بعد وفاته عام 1997، نلمح صوت المفكر الهادئ الذي يتأمل في الحياة كما لو كانت مرآةً للروح. لم يكن يزخرف عباراته، بل يكتب بصدقٍ شفاف يجعل من البساطة جمالًا، ومن العمق تواضعًا. يمرّ على موضوعاتٍ شتّى: عن العمل والواجب، عن الحبّ والضمير، عن علاقة الإنسان بمصيره، فيغدو النص عنده حوارًا بين العقل والقلب، بين التجربة الفردية والأسئلة الكبرى التي لا تنتهي.

لقد آمن خليل تقيّ الدين بأنّ المثقّف ليس زينة المجتمع بل ضميره. فكتب عن الوطن بوعي المربّي لا بحماسة الخطيب، وعن الدين بروح المتصوّف لا بحدة الواعظ. وكان يرى في المعرفة مسؤولية، وفي الكتابة التزامًا أخلاقيًّا لا مهنةً تدرّ الشهرة. ولعلّ ذلك ما جعله يبتعد عن الأضواء، فبقي في الظلّ لأنّ ضوءه لم يكن صاخبًا، بل عميقًا يغور في النفس قبل أن يسطع في العين.

رحل خليل تقيّ الدين عام 1987، تاركًا إرثًا فكريًّا وأدبيًّا لا يزال يشهد على جيلٍ آمن بأنّ الكلمة فعل خلاص. وإذا كان كثيرون من مجايليه قد ذاع صيتهم بفضل الصخب الإعلامي، فإنّ تقيّ الدين ظلّ مثال المفكر الذي عاش للفكرة لا لهاجس الظهور. هو ابن لبنان الصغير في مساحته، الكبير في فكره، الموحدّ في إيمانه، العربي في لغته، الإنساني في رؤيته. من يقرأه اليوم يدرك أنّ الأصالة ليست في التمسك بالماضي بل في أن نحمله في وعينا ونحن نطلّ على المستقبل.

لقد كان هذا الرجل، في هدوئه وعمقه، واحدًا من الأصوات التي تُعيد إلينا الثقة بأنّ الفكر الأخلاقي ما زال ممكنًا، وأنّ لبنان الذي أنجب أمثال خليل تقيّ الدين، قادر على أن ينهض من بين ركام الأزمات، ما دام في أبنائه من يؤمن بأنّ الكلمة ليست حبرًا على ورق، بل نورًا يُضاء به الطريق إلى الإنسان.

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : ايكو وطن-eccowatan