خاص ايكو وطن : رشيد نخلة وفرادة النشيد الوطني اللبناني
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : فاروق غانم خداج
Nov 23 25|10:16AM :نشر بتاريخ
كتب فاروق غانم خداج لإيكو وطن: رشيد نخلة وفرادة النشيد الوطني اللبناني
وُلِدَ رشيدُ نَخلةَ في بلدةِ الباروكِ في قضاءِ الشوفِ عامَ 1873، في بيئةٍ جبليةٍ تداخلَ فيها الصفاءُ الطبيعيُّ مع العمقِ الثقافيِّ لتلكَ المنطقةِ التي أنجبتْ شعراءَ وأدباءَ تركوا بصمتَهم على الوجدانِ اللبنانيِّ. في هذا المناخِ الريفيِّ الهادئ، نما الطفلُ الذي سيصبحُ لاحقًا أحدَ أبرزِ كتّابِ الزجلِ، وصاحبَ الكلماتِ التي تحوّلت إلى رمزٍ وطنيٍّ جامع: النشيدِ الوطنيِّ اللبنانيِّ. لقد شكّلَتِ الباروكُ بالنسبةِ إليه مَنبعًا للصورِ الشعريةِ الأولى، وفضاءً تترددُ فيه أصواتُ الطبيعةِ، لتصبحَ نبرتهُ الإبداعيةُ لاحقًا أقربَ إلى الأرضِ، وإلى الناسِ، وإلى فكرةِ لبنانَ التي كانت تتكوّنُ تدريجيًا في مرحلةٍ دقيقةٍ من تاريخِه.
امتاز رشيدُ نخلةَ بموهبةٍ شعريةٍ مبكرةٍ، سرعانَ ما نضجتْ لتجعلَه من أعلامِ الشعر في لبنانَ والعالمِ العربيِّ. لُقّبَ بـ «أميرِ الزجلِ»، وهو لقبٌ لم يأتِ من فراغٍ، بل من براعةٍ فطريةٍ في تطويعِ اللغةِ وتوليدِ الإيقاعِ، وجعلِ العاميةِ جسرًا نحو العمقِ الإنسانيِّ. كان شعرُه قادرًا على أن يحملَ صوتَ الشعبِ، ويحوّل الكلماتِ البسيطةَ إلى معانٍ سامية، دون أن يفقدَ عاطفةَ الناسِ وهمومَهم.
حين اختيرَ لكتابةِ النشيدِ الوطنيِّ اللبنانيِّ سنةَ 1927، لم يكن ذلك تكليفًا أدبيًا عابرًا، بل كان اعترافًا بقدرتِه على التقاطِ روحِ لبنانَ كما تجلّتْ في تلك الحقبةِ. كتب الكلماتِ، ووضعَ وديعُ صبرا اللحنَ، فكانت ولادةُ نشيدٍ يرتكزُ على معنى الانتماءِ النابعِ من التضحيةِ، وعلى صورةِ الوطنِ الذي يقومُ ويزدهرُ برجالهِ ونسائهِ، بإيمانِهم، وبإرادتِهم الصلبةِ. فأتى مستهلُّ النشيدِ: «كلُّنا للوطنِ، للعلى للعلمِ»، وهو مطلعٌ يضعُ الوطنَ في المركزِ ويحيطُ بالناس، ثم يرفعُ العلمَ رمزًا للسيادةِ والرؤيةِ الجامعةِ.
فرادةَ النشيدِ لا تكمنُ في الكلماتِ وحدَها، بل في الطريقةِ التي شُيّدَ بها. فعبارةُ «سهلُنا والجبلُ، منبتٌ للرجالِ» تحملُ في طيّاتها علاقةَ الأرضِ بأبنائِها، وتعيدُ تشكيلَ مفهومِ الرجولةِ الوطنيةِ، لا رجولةِ القوةِ الجوفاءِ، بل رجولةِ الثباتِ والعملِ والشجاعةِ. أمّا قوله «كلُّنا للوطنِ» فهو تعبيرٌ عن وحدةٍ تتجاوزُ الانتماءاتِ الطائفيّةَ والمناطقيةَ، لتقدّمَ هويةً جامعةً تقومُ على الإرادةِ المشتركةِ في بناءِ وطنٍ كريمٍ.
القفلةُ «كلُّنا للوطنِ» تعيدُ التأكيدَ على الالتزامِ. يُفتتحُ النشيدُ ويُختتمُ بالمعنى ذاتهِ، كي يظلَّ الانتماءُ ثابتًا، لا مجرّدَ شعارٍ. هذا البناءُ الدائريُّ يعكسُ رؤيةَ نخلةَ لدورِ اللبنانيِّ في حياته العامة: يبدأُ بالوطنِ، ويمرُّ عبر العملِ والشرفِ والبطولةِ والإخلاصِ، ويعودُ إلى الوطنِ.
يتميّزُ النشيدُ أيضًا بقدرته على جمعِ القوةِ باللينِ، والصرامةِ بالعاطفةِ. فاللهجةُ التي يستخدمُها نخلةُ ليست حادّةً، بل متماسكةً، وطنيةً من غيرِ تهويلٍ، صادقةً من غيرِ مبالغةٍ. وتشيرُ هذه السمةُ إلى شاعرٍ يكتبُ بضميرِه قبلَ قلمِه، ويؤلّفُ بنبضِ الأرضِ قبلَ أيّ جمالياتٍ لغويةٍ. إنّ نخلةَ لم يكتبِ النشيدَ ليُحفَظَ في المدارسِ فحسب، بل ليعيشَ في قلوبِ اللبنانيينَ، وليتحوّلَ إلى جزءٍ من ذاكرتِهم اليوميةِ.
اللافتُ في شعرِه، وفي النشيدِ خصوصًا، هو غيابُ الزخرفةِ اللفظيةِ الثقيلةِ التي كانت شائعةً في زمنِه. فقد اتجهَ نحو لغةٍ واضحةٍ، دقيقةٍ، رشيقةٍ، تحملُ جرسًا موسيقيًا من دون تكلّفٍ. وهذا الأسلوبُ ينسجمُ مع روحِ الجبلِ الذي أتى منه: جمالٌ في البساطةِ، وعمقٌ في الصدقِ، وسموٌّ لا يحتاجُ إلى بهرجةٍ. وما يفسّرُ خلودَ كلماتهِ أنّه لم يتعاملْ مع النشيدِ بوصفهِ قصيدةً، بل بوصفهِ عقدًا روحيًا بين الإنسانِ والأرضِ.
عاش نخلةَ زمنًا صعبًا، وكانت ولادةُ لبنانَ الكبيرِ سنةَ 1920 حدثًا مفصليًا في حياته. ومع ذلك، لم يجعلِ النشيدَ وثيقةً سياسيةً، بل جعله لحظةً وجدانيةً تُخاطبُ الإنسانَ قبلَ المواطنِ. فهو يركّزُ على القِيَمِ قبلَ السياسةِ، وعلى الروحِ قبلَ الخطابِ، وعلى الجمعِ لا الفرقةِ. وفي هذا الجانبِ تتجلّى فرادةُ النشيدِ: عملٌ وطنيٌ متجذّرٌ في نبضِ الناسِ لا في صراعاتِهم.
توفّي الشاعرُ عامَ 1939، وتركَ إرثًا يجمعُ بين الزجلِ والشعرِ الوطنيِّ. لكنّ النشيدَ يظلُّ ذروةَ مسيرتِه، لأنه اللحظةُ التي التقتْ فيها موهبتُه الشعريةُ، وخبرتُه الجبليةُ، وقراءتُه العميقةُ للإنسانِ اللبنانيِّ. كلماتُ نخلةَ ليست مجردَ نصٍّ يُرتَّلُ، بل دعوةٌ مستمرةٌ كي يكونَ كلُّ فردٍ جزءًا من وطنِه، يرفعُه بعملِه، ويصونُه بشرفِه، ويحفظُ قيمَه، تمامًا كما أراد شاعرُ الباروكِ الذي عرفَ منذ البدايةِ أن لبنانَ ليس فكرةً تُكتبُ، بل روحٌ تُعاشُ.
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا