"المصالحة من خلال الثقافة": مبادرة تعيد الحياة إلى قلعة طرابلس وتجمع شباب المناطق المتنازعة

الرئيسية ثقافة / Ecco Watan

الكاتب : روعة الرفاعي
Dec 10 25|21:33PM :نشر بتاريخ

ايكووطن - طرابلس – روعة الرفاعي
تُعدّ قلعة طرابلس أكبر قلاع لبنان، وإحدى أكثر القلاع المتكاملة في المنطقة، ولطالما كانت رمزاً لمدينة طرابلس وإرثها الثقافي.
بمبادرة جريئة، وتحت عنوان "المصالحة من خلال الثقافة"، توّجت جمعية "مارتش" نشاطها لتنظيف وإنارة قلعة طرابلس، التي عانت الإهمال لسنوات طويلة وغزتها الأعشاب وباتت تهدّد تماسك جدرانها، باحتفال ختامي.
وتكمن أهمية هذا العمل في الشباب الذين شاركوا في المبادرة، وهم شباب من مناطق مهمّشة في طرابلس، خصوصاً من جبل محسن، باب التبانة، الملولة، المنكوبين، ووادي نحلة، ممن شاركوا سابقاً في نزاعات مسلّحة وكانوا على خطوط التماس. واليوم يجتمعون في حرم هذا المعلم الثقافي، إيماناً منهم بضرورة الحفاظ على هذا المكان التاريخي، وقد تعاونوا يداً بيد لأكثر من شهر لتنظيف وإنارة أحد أكبر المعالم الأثرية في مدينتهم، متجاوزين النزاعات والاختلافات الطائفية.
 
خطوات نحو الثقة على دروب كانت خطوط تماس
وتأتي هذه المبادرة من صندوق مبادرات جمعية "مارتش" التي تعمل على بناء جسور الثقة بين المناطق المهمّشة والمتنازعة من خلال تعزيز المصالحة وإشراك الشباب في خدمات مجتمعية مشتركة تعزّز انتماءهم إلى مدينتهم ومحيطهم، وتفتح لهم مسارات للحوار والتفاهم والتعاون.
كما يتم تنفيذ العديد من هذه المبادرات بالتنسيق والتعاون الوثيق مع الجيش اللبناني ومؤسسات الدولة المختلفة، بهدف ترسيخ علاقة إيجابية وبنّاءة مع هذه الجهات، وإعادة بناء الثقة بين الشباب والدولة، وتعزيز شعورهم بالانتماء، وتمكينهم من الخروج من دائرة التهميش. وبناءً على ذلك، تم تنفيذ هذا العمل بالتعاون مع مديرية الآثار في وزارة الثقافة، وعناصر من فوج التدخل الأول في الجيش اللبناني، وجهاز الطوارئ والإغاثة، وبلدية طرابلس.
 
أسوار طرابلس تحتضن احتفالاً يوحّد أهلها
في ١٠ كانون الأول، اختتمت جمعية "مارتش" الحفل الختامي لهذا النشاط داخل قلعة طرابلس، برعاية وزير الثقافة الدكتور غسان سلامة، ممثلاً بالمدير العام للآثار في وزارة الثقافة المهندس سركيس خوري.

كما حضر رئيس بلدية طرابلس عبد الحميد كريمة ومحافظ الشمال الدكتور ايمان الرافعي ونائب رئيس البعثة في السفارة البريطانية في لبنان والداعم الرئيسي لهذه المبادرة، فيكتوريا دان والعميد عبدالكريم أسعد ممثلاً قائد الجيش العماد رودولف هيكل، إلى جانب فعاليات رسمية وعسكرية وثقافية واجتماعية من مدينة طرابلس.

بعد النشيد الوطني اللبناني، وعرض فيلم وثائقي عن قلعة ريمون دي سان جيل، ألقت رئيسة جمعية "مارتش" ليا بارودي، كلمة رحّبت فيها بالحضور، وشكرت شباب الجمعية والعناصر العسكرية على التزامهم وجديتهم في العمل. وأوضحت أن وجودنا هنا اليوم لا يقتصر على تكريم تاريخ قلعة طرابلس، بل للاحتفال بما يُكتب الآن. فهذا المشروع، كما قالت، ليس خطوة منفردة، بل جزء من مسار طويل تعمل عليه جمعية "مارتش" في طرابلس منذ أكثر من عشر سنوات، لإصلاح ما خلّفته الحروب والإهمال الممنهج في المدينة ومناطقها الأكثر تهميشاً.

وأشارت إلى أن مشروع القلعة ليس مجرد تنظيف أو إنارة، رغم أهمية القلعة كإرث وطني، بل إن قيمته الحقيقية تكمن في الشباب الذين وقفوا خلفه؛ شباب كانوا يوماً على خطوط المواجهة، وهم اليوم من نظّفوا القلعة، ورمّموا زواياها، وحملوا الحجارة، وعلّقوا الإنارة، وذلك بإشراف مديرية الآثار وبالتعاون اليومي مع الجيش اللبناني وجهاز الطوارئ والإغاثة.

وأكدت بارودي أن قصص هؤلاء الشباب تُظهر حقيقة بسيطة وعميقة: "أن الإنسان يتغيّر عندما يُرى ويُسمع ويُرافق، لا عندما تُلصق به الوصمات". وختمت بالقول: "إن قلعة طرابلس اليوم أجمل وأنظف، ليس فقط بما أُنجز فيها، بل لأن هؤلاء الشباب شعروا أن لهم مكاناً ودوراً، وأن هذا البلد لا يزال قادراً على منح فرصة ثانية".

وحيّت بارودي دور الجيش اللبناني كشريك أساسي في إعادة ربط الناس بالدولة، مشددة على أن الأمن الحقيقي يبدأ من التنمية والاحتواء، لا من القوة فقط. كما أثنت على دعم السفارة البريطانية الذي شكّل ركيزة أساسية لاستمرارية العمل المجتمعي في طرابلس، وعلى تعاون وزارة الثقافة وبلدية طرابلس في إنجاح المشروع.

ثم تتابعت الكلمات المرحّبة بهذا النشاط والداعمة لروحيته، فشددت مديرة الآثار في الشمال، سمر كرم، على أهمية صون المواقع التاريخية والتراثية في طرابلس، وأن صونها يقع بالتزام وطني جماعي يشارك فيه كل فرد بهذا المجتمع وبكل مؤسساته لأن التراث هو ركيزة مهمة وأساسية عندما نتحدث عن هويتنا.

تلتها كلمة رئيس بلدية طرابلس التي عبّر فيها عن تقديره الكبير لجهود جمعية "مارتش" ودورها المستمر في خدمة المدينة وشبابها، مؤكداً أن ما حققته الجمعية يتجاوز المشاريع الظرفية ليصل إلى صناعة فرق حقيقي في حياة الناس. وشدّد كريمة على أهمية المصالحة التي شهدتها طرابلس بين شباب كانوا في الماضي خصوماً، معتبراً أن الجمعية أدّت دوراً محورياً في هذا التحوّل الإيجابي الذي أعاد الأمل إلى شوارع المدينة وقلوب أهلها. كما توجّه بالشكر إلى وزارة الثقافة ومديرية الآثار، مرحباً بجميع الحضور في مدينة طرابلس، ومؤكداً أن المدينة ستبقى مساحة للحياة، والانفتاح، والتلاقي، وأنها تستحق الدعم والاهتمام لتستعيد مكانتها الحضارية والوطنية.

وأضاف: "هنا لا بدّ أن نتوقف بصدق أمام الجهة التي آمنت بهذا التحوّل منذ بدايته: جمعية مارتش، التي قرأت في شباب المدينة طاقةً… لا مشكلة، ورأت في الثقافة جسراً… لا حاجزاً. شكراً لمارتش على إصرارها على أن تكون شريكاً مستمراً لا ضيفاً عابراً، وعلى أنها اختارت أن تستثمر في الإنسان… قبل الحجر، في فن الشارع… قبل بيانات المؤتمرات، وفي المصالحة الحقيقية التي تبدأ حين نرى في الآخر إنساناً يشبهنا، لا خصماً علينا هزمه".
ثم كانت كلمة من شباب "مارتش" الذين شاركوا في هذه المبادرة  ومن خلالها شدّدوا على أنّ مشاركتهم هي بهدف إرسال رسالة تعايش ووحدة لكل لبنان  وأنّ المجتمع غالباً ما يحكم على الأفراد من خلال ماضيهم، لكن ما يساعد حقاً هو القدرة على تجاوزه، وهذا بالضبط ما تقوم به "مارتش" مع الشباب.

كما عبّر أحد المشاركين من جبل محسن عن تجربته الشخصية، قائلاً إنّ دخوله قلعة طرابلس خلال هذا المشروع كان زيارته الأولى لها رغم أنها في مدينته، مؤكّداً أنّ أكثر ما أثار شعوره بالفخر هو تنظيف القلعة جنباً إلى جنب مع أبناء التبانة وعناصر الجيش اللبناني. وأضاف: "بعد انتهاء هذه المسيرة اكتشفنا أنّنا نستحق أن نفخر بأننا كنّا هنا".

وقال أحد الشباب المشاركين: "كل العالم يحكمنا على ماضينا، ولكن لا أحد غير مارتش أنسّنا ماضينا". كلمات صادقة من شاب من المنكوبين عبّرت عن أثر "مارتش" علىه.

وكانت كلمة من نائب رئيس البعثة في السفارة البريطانية في لبنان فيكتوريا دان التي أكدت أن المشاريع التي تنفذها جمعية "مارتش" تسهم في تعزيز السلام والمرونة، وبناء جسور بين المجتمعات المُهمَّشة، ومنح المشاركين شعوراً مشتركاً بالفخر وأننا معاً، يمكننا مواصلة دعم المبادرات التي تُعزّز المصالحة، وتمكّن الشباب المهمشة، وتحافظ على الإرث الثقافي الغني في لبنان.

وفي الختام كانت كلمة سركيس خوري ممثلاً وزير الثقافة الذي شدد على أهمية التعاون في الحفاظ على قلعة طرابلس، وعلى أهمية هذه الآثار بالنسبة إلى الثقافة والحضارة اللبنانية.
 
شهادات تقدير وعلمٌ يرتفع وقلعة تروي حكاية التعايش
بعد عرض الفيلم الذي يوثّق الأعمال المنفَّذة والصعوبات التي رافقت هذا النشاط، وإلقاء الكلمات المُعبِّرة التي أشادت بروعة هذا المشروع، وزعت بارودي، مع راعي الاحتفال وممثل قائد الجيش، شهادات شكر وتقدير على الشباب والعناصر العسكرية المشاركين في هذا العمل (عددهم ٦٠).
وفي الختام، رُفع العلم اللبناني فوق سور القلعة على وقع الموسيقى العسكرية، في رسالة واضحة الدلالات.
وتبقى قلعة طرابلس المعلم الذي تلتقي خلف أسواره الأديان بصمتٍ لا يحتاج إلى تبرير، فهذا المكان الذي يحتضن المحراب والمذبح معاً، شاهدٌ على قرون من التعايش والصراع والرمزية العريقة.
 
وإذا كانت مدينة طرابلس لا تختصر بقلعتها، فإن أقبيتها ما زالت تخبّئ روايات لم تُكتب بعد…

لم يكن هذا المشروع مجرّد تنظيف وإنارة للقلعة، بل رسالة حيّة بأن الثقافة جسرٌ للمصالحة، وأن الشباب قادرون على تجاوز الانقسامات وبناء مجتمعات أكثر تماسكاً. ويبقى أمل جمعية "مارتش" أن تستمر هذه المبادرات في إحياء المعالم التاريخية، وغرس قيم التعاون والانتماء والفخر في قلب كل مدينة ومجتمع.

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : ايكو وطن-eccowatan