في ثوب الموسيقى يختبئ الشفاء

الرئيسية مقالات / Ecco Watan

الكاتب : كريستين سري الدين
Sep 08 24|10:51AM :نشر بتاريخ

لولا الموسيقى لضاق بنا الوجود وصعبت علينا الحياة.   
أيتها الموسيقى! يا لك من نسيج نزل إلينا من السماء متناثرا على كل بقعة من الأرض، نسج خيوطه لينتج لحنا جميلا ترضخ له العقول والنفوس وتتمايل معه القلوب.
فما أقسى العيش بدونك!  

وما أحوجنا إليك دائما وأبدا!
سواء كنت بسيطة أم معقدة، استطعت أن تمزجي المحبة والحنان، الواقع والخيال. استطعت أن تخدمي القضايا الانسانية وأن تهذبي الروح. جعلت النفس الانسانية تواقة للفكر والحب والمعرفة، ومنحتها مخزونا عاطفيا قويا ومتجددا.  

  فما أقدرك فنا وما أعظمك وحيا!
 حقا، إنك سحر يصعب تفسيره. تدخلين قلوبنا وعقولنا دون استئذان، تخرجين منا ما هو خفي، فتتجلى إنسانيتنا على حقيقتها التي نحن بحد ذاتنا نجهلها. إنك تلامسين الجوهر.    فبك نحيا ونعيش!
وكما قال جبران خليل جبران :" الموسيقى كالمصباح، تطرد ظلمة النفس، وتنيرالقلب، فتظهرأعماقه...".
و يقول ريتشنر:" يمكننا بواسطة الموسيقى أن نستبطن كنه أمور لم يسبق أن رأيناها ولن نراها".
 يا قارئي العزيز، اذا تمعنت بما يدور من حولك، ترى أن الوجود هو موسيقى، الكون هو موسيقى.
 نستيقظ كل صباح مع طلوع الفجر علي موسيقى الطبيعة التي هي جرعات تدفعنا نحو الأمام والمثابرة والتمسك بخيوط الحياة والبقاء. بمعنى آخر، نستيقظ على جرعات أمل تجعل أحلامنا قابلة للتحقق.
 الموسيقى هي تعبيرعن المشاعر والأعماق بأفراحها واتراحها وتجاربها. هي ترجمة لما يعتمل في وجدان الإنسان من أحاسيس وعواطف ولما يتولد في العقل من رؤى وأحلام. إنها محرك العقل الباطني المبشر بالخيرالدؤوب والباعث للاستمرارية.
لم تجتمع شعوب الأرض باختلاف أجناسها  وثقافاتها ومن مشرقها إلى مغربها إلا عن طريق الموسيقى التي هي أبلغ أداة تواصل تعلو على الكلمة والصورة.
فهل سمعت يوما أن شعوبا قد تقاتلت بسبب موسيقى أو لحن أو أغنية؟
فمن ضرب الحجارة ببعضها إلى إصدار الأصوات ثم إلى تصفيق بالأيدي وضرب بالأقدام، تطورت الموسيقى عبر العصور لتصبح مرآة تعكس ثقافة الشعوب  وحضارتها.
إنها لغة الضمائر النائمة، توحد المسامع وتغمس النفوس في  كؤوس السلام والتفاني.
وعلاوة على ذلك، لم يقتصر دورها على الترفيه والاسترخاء وفي المناسبات  والاحتفالات والطقوس الدينية بل اتسعت دائرة مزاياها ليختبئ تحت ظلها الشفاء والعلاج.
والجدير بالذكر، أن العلاج بالموسيقى منهج علاجي استخدم منذ القدم ومازال.  فلقد أعطى كل من الفارابي والكندي أهمية للموسيقى في علاجات الأمراض النفسية والجسدية. حيث كانت تعزف مقامات مختلفة بحسب حالة المريض.
 و يقول أبو بكر الرازي:" أن للموسيقى أثراً سحرياً يقي المرضى من تأجج أزماتهم النفسية".
 وابن سينا في كتابه " القانون في الطب" يقول:" أن الموسيقى علاج لعدد من الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الإنسان..."
 واعترف بهذا العلاج رسميا بعد الحرب العالمية الثانية حيث تم معالجة أشخاص عانوا من آثار الحرب. وفي لبنان، قد استخدم هذا العلاج عام ٢٠٠٦.
فعند سماع الموسيقى، يكون تفاعل الأشخاص بطرق مختلفة وردة فعلهم عفوية  بعيدة عن التكلف. لذا نرى من يتحمس للرقص ومن يندفع للغناء أوالتصفيق أوالمشاركة في العزف ومن يضحك ومن يبكي. جميعها سلوكيات يقوم بها الإنسان من دون تفكير مسبق أو وعي مدروس. ولكن لماذا ؟ لأنه من الناحية العلمية، تقوم الموسيقى بإرسال ذبذبات تؤثرعلى الدماغ و الأعصاب.
 فالأبحاث العلمية أثبتت أن الاستماع إلى الموسيقى يحث الجسم على إفراز الرسول الكيميائي، الدوبامين، وهو الناقل العصبي المسؤول عن مركز السعادة في الجسم.
يتضمن العلاج الغناء والرقص والتأليف والارتجال والعزف والاستماع ومناقشة معاني الكلمات ومواضيع موسيقية. وتكمن أهميته في دعم الاحتياجات العاطفية والذهنية والمعرفية والجسدية والتواصلية.ومن الممكن أن يكون العلاج ضمن مجموعات أو كل فرد على حدة. وهنا لابد أن ينسجم المريض مع مشاعره ويدعها هي التي توجه سلوكياته. فإذا كان حزينا مثلا يقوم بالغناء بصوت خافت وغير واضح. وأيضا تستخدم الموسيقى لتغيير المشاعر، مثلا تغيير شعور الانفعال من خلال الغناء أو العزف بطريقة هادئة.
ومن المهم أن يكون للمعالج معرفة عميقة بعالم الموسيقى وخبرة عالية في كيفية إثارتها لإستجابات عاطفية تحفزعلى العلاج. أما بالنسبة للمريض فليس بالضرورة أن يكون لديه هذه الخبرة والمعرفة. نذكر بأن العلاج مصوب دائما إلى مختلف الفئات العمرية باختلاف درجات صحتها النفسية والبدنية والعقلية. فقد تحدد الأهداف وتخصص الجلسات وفق الاحتياجات.
وتشير دراسات عديدة على مدى تأثيره في تحسين: جودة العيش وخاصة لمن يعانون من الخرف واضطرابات الذاكرة، مستوى الذكاء التفاعلي، المزاج، القدرة على التناسق العقلي والبدني، القدرات والمهارات الحركية. ويعززالعلاج الثقة بالنفس وشعورتقديرالذات والذوق السليم. يحد من حالات القلق والتوتر والاكتئاب والأرق التي تزداد كل عام بنسب مرتفعة ومخيفة. لذا نرى الأطباء قبل القيام بالجراحات الكبرى يستمعون إلى الموسيقى للتخفيف من التوتر وليكونوا أقل انزعاجا وأيضا المرضى قبل دخولهم غرف العمليات والنساء الحوامل وذلك من أجل التخفيف من ألم الولادة، فتستخدم الموسيقى كمحور تركيز صوتي لمساعدة الأم على التركيزعلى تنفسها أثناء الولادة. فضلا عن هذا، يخفف العلاج القلق المرتبط بالعلاج الكيميائي والإشعاعي لمرضى السرطان ويقي من الغثيان. فمن هنا يزداد اعتماد المستشفيات في أميريكاعلى المعالجين الموسيقيين للتعامل مع المرضى.
تقول المعالجة الموسيقية في جامعة بوسطن سوزان هانزر:" إن الموسيقى أداة فعالة لاسترخاء المريض بعمق". هناك دراسة ألمانية أثبتت بأنه من خلال هذا العلاج يكون خفض الشعور بالألم  بنسبة ٥٠%.
أضف إلى ذلك، أنه يعالج التهاب آلام المفاصل ومشاكل التنفس وداء السكري والصداع والفصام. كما يساعد في: خفض معدل ضربات القلب وضغط الدم، ويقوي العلاج الموسيقي التواصل الاجتماعي وخاصة عند الذين يعانون من إعاقات التنموية أو صعوبات التعلم، يساهم في إرخاء التوتر العضلي، و فقدان الوزن وزيادة التركيز وإفراز هرمون الاندروفين هرمون السعادة والنشاط...
فالأبحاث العلمية أثبتت أن الغناء يخفض من مستويات الكورتيزون والكورتيزول.         والموسيقى الأكثر استعمالا في العلاج هي الموسيقى الكلاسيكية.
أخيرا وليس آخرا، لابد للموسيقى الراقية أن تشغل حيزا من حياتنا لما لها من مزايا وفوائد. إنها صوت البقاء وميزان الوجود، مصدر الالهام والعطاء، ملتقى الروح والحس، غذاء القلب والعقل، باعثة للخير والحب والشفافية 
إنها وحي يعزف على أوتار قلوبنا و ضمائرنا  لحنا يصعب فهمه نتفاعل معه ولكن لا ندري كيف! يوفر علينا عناء الكلمات والألفاظ، فتتراءى كؤوس المشاعر المختبئة والمكبوتة في الأعماق، فندرك عندها بأن هذا الهيكل الغني الفريد والمؤثر هو الأكثر التصاقا بالنفس الإنسانية. ثم نقف ونقول بالفم الملآن:" بفضل الموسيقى نحن بألف خير، سلام عليك أينما وكيفما  كنت"


 

 

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : ايكو وطن-eccowatan