التلاقي الجوهري بين كمال جنبلاط وغاندي: روحانية السياسة وأخلاق التحرر
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : د. فاروق غانم خداج
Oct 19 25|11:03AM :نشر بتاريخ
كتب د. فاروق غانم خداج في إيكو وطن:
التلاقي الجوهري بين كمال جنبلاط وغاندي: روحانية السياسة وأخلاق التحرر
في مسار التاريخ الحديث، يطلّ رجلان استثنائيان من مشرقين مختلفين، يحملان في ضميريهما نبض الإنسانية، ويلتقيان في أعماق الرؤية: كمال جنبلاط، الفيلسوف اللبناني الذي أضاء درب السياسة بالحكمة، والمهاتما غاندي، الزعيم الهندي الذي حوّل النضال إلى ترنيمة روحانية. كلاهما ارتقى بالسياسة من مستوى الصراع على السلطة إلى مقام الرسالة الأخلاقية، ومن حسابات المصالح إلى آفاق الروح.
روحانية السياسة: عندما تصبح القيادة عبادة
لم يكن غاندي مجرد قائد سياسي، بل كان مجددًا روحانيًا في ساحة النضال. استقى فلسفته من "البهاغافاد غيتا" وكتابات تولستوي، ورأى أن التحرّر يبدأ من الداخل، من كسر قيود الخوف والطمع. جعل من "الساتياغراها" – قوة الحق المستندة إلى اللاعنف – منهجًا وجوديًا قبل أن يكون استراتيجية سياسية.
أما كمال جنبلاط، الذي اغترف من ينابيع التراث الصوفي الإسلامي والمسيحي والفلسفات الشرقية، فقد رأى في السياسة امتدادًا للمعرفة الباطنية. كتب في وصيته الخالدة: "السياسة عناية وخدمة ومسؤولية وأمانة ورسالة"، وهي كلمات تشبه نداء غاندي حين ربط العمل العام بخدمة الحق والعدالة.
اللاعنف كقوة محرِّرة: بين المبدأ والتطبيق
آمن غاندي أن اللاعنف ليس ضعفًا، بل قوة عظيمة تُحرّر الشعوب. قاد "مسيرة الملح" عام 1930، محولًا الملح إلى رمز للكرامة، ومشى بمشروع المسيرات السلمية ليُثبت أن الشعوب تستطيع أن تنتصر بإرادتها لا بسلاحها.
أما كمال جنبلاط، ورغم قيادته في بيئة سياسية متوترة، فقد دعا إلى نبذ العنف الداخلي، ورأى أن الإصلاح لا يكون بالدم بل بالوعي. هنا يظهر اختلاف في التطبيق العملي: بينما التزم غاندي باللاعنف مطلقًا، قاد جنبلاط مقاتلين في ظروف معينة دفاعًا عن وجود وكيان، لكن الجوهر الأخلاقي ظل واحدًا: تحرير الإنسان من الداخل كمدخل للتحرير في الخارج.
الزهد والبساطة: قيادة بالقدوة لا بالقول
الزهد كان رابطًا خفيًا بين الرجلين. غاندي اكتفى بلباس بسيط ينسجه بيديه، وتغذّى بكسرة خبز وبعض الحبوب، ليُثبت أن الإنسان أقوى من شهواته. لم يكن زهده انسحابًا من الحياة، بل مشاركة فعلية في معاناة شعبه.
وجنبلاط عاش بعيدًا عن مظاهر الترف، مكتفيًا بحياة قروية هادئة في المختارة، حيث الطبيعة مرشده الأول. لم يكن الزهد عندهما مجرد مظهر، بل خيارًا أخلاقيًا يعكس قناعة بأن القيادة لا تُبنى على التملك، بل على التحرر من التملك.
تحرير الداخل قبل الخارج: المعركة الأولى
الحرية عند غاندي تبدأ من تحرر النفس: من الخوف، ومن التبعية، ومن الخضوع. كان يرى أن المستعمر الحقيقي يعيش في داخلنا قبل أن يكون قوة خارجية.
أما كمال جنبلاط، فقد رأى أن الإصلاح لا يكتمل إلا إذا بدأ الفرد من ذاته، بمعرفة نفسه وتطهيرها من الأهواء. كتب: "أول الطريق إلى الحرية تبدأ بتحرير الذات من أسرها الداخلي". هنا يلتقي الرجلان في فكرة أن معركة الإنسان الأولى هي معركة داخلية، وأن الشعوب لا تتحرر حقًا إلا إذا تحرر أبناؤها من قيودهم الباطنية.
إرث إنساني يتجاوز الحدود: المثقف العضوي
ما جمع الرجلين هو الإيمان بأن السياسة بلا أخلاق تصبح عبئًا، وأن القيادة من دون قيم تتحول إلى تسلّط. لذلك، لم يتركا مجرد سيرة سياسية، بل خلّفا إرثًا إنسانيًا لا يزال حاضرًا:
غاندي رمز عالمي للسلام والعدالة من خلال مشروعه التحرري الشامل.
جنبلاط رمز للمثقف الملتزم، الذي أسس الحزب التقدمي الاشتراكي على مبادئ الإصلاح والتجديد، وحوّل الفلسفة إلى فعل سياسي.
كلاهما مثّلا نموذجًا للمثقف العضوي الذي لا ينفصل فكره عن ممارسته، ولا فلسفته عن نضاله اليومي.
الخاتمة: درسان للحاضر والمستقبل
إن التلاقي الجوهري بين كمال جنبلاط وغاندي ليس مجرد تشابه في الأسلوب أو الخيار السياسي، بل هو التقاء في الرؤية إلى الإنسان. كلاهما رأى أن الإنسان أكبر من الطائفة والحزب والدولة، وأن رسالته أن يسعى إلى الحق بوسائل الحق.
في زمننا الراهن، حيث تعلو أصوات السلاح على صوت الحكمة، وتغيب الأخلاق في المعترك السياسي، تظل سيرتهما شاهدًا على أن قوة اللاعنف أعمق من كل عنف، وأن الزهد أبهى من كل ترف.
إن درسهما الأكبر يكمن في أن التغيير الحقيقي يبدأ من تحرير الضمير الفردي والجمعي. فكما واجه غاندي أعظم إمبراطورية بالحق واللاعنف، وكما واجه جنبلاط تعقيدات النظام الطائفي بالحكمة والمبدأ، يمكن لأمتنا اليوم أن تجد في رؤيتهما خريطة طريق للخروج من أزماتها. إنهما يذكراننا أن السياسة حين تتطهّر بالروح تصبح سبيلًا للتحرر والكرامة، وأن القيادة الحقيقية هي التي تخدم الحياة لا تمتلكها.
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا