خاص ايكووطن: الطفولة في غابة التكنولوجيا الى اين؟
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : كريستين سري الدين
Aug 18 24|18:20PM :نشر بتاريخ
الطفولة إلى أين؟
ألهتنا التكنولوجيا وقتلتنا الثورة الرقمية. فضاع من بين أيدينا أثمن وأغلى ما نملك، الطفولة السوية.
عندما نقول طفولة نقف متأهبين ومستعدين للدفاع عنها وحمايتها من المخاطر التي تعترضها.
لقد تقدمت التكنولوجيا الرقمية بسرعة تفوق أي ابتكار تاريخي، وانتشر استخدام الانترنت عند الأطفال بشكل واسع ومخيف، محدثا تحولات غريبة في المجتمع. فلم تترك هذه التكنولوجيا جزءا من الطفولة البريئة إلا وشوهتها.
وتؤكد آخر أرقام "المفوضية الأوروبية" أن واحدا من كل ثلاثة مستخدمين للإنترنت في العالم هم من الأطفال.
ولكن ماذا لو أيقنا أنه من المستحيل حماية هذه الشريحة الضعيفة إن لم نسرع في اتخاذ القرارات واتباع الخطوات التي شجعت دراسات عديدة على تطبيقها.
ربما الوقت قد تأخر والحماية لم تعد كافية وفي موقعها الصحيح، ولكن هذا لا يعني الاستسلام وعدم المحاولة لفتح أبواب الحلول على مصراعيها.
في الواقع، علينا معرفة ما التأثيرات السلبية التي أحدثتها الثورة الرقمية على عالم الطفولة؟ وكيفية الحد من تفاقمها ؟ ولماذا لا بد من التصدي لها بشكل سريع وشديد؟
عند التفكير لبرهة في هذه الأسئلة، قد يطرأ في النفس نوع من الشك، لأننا نحن كأهلٍ ومربّين على دراية كافية بما يتعرض له أطفالنا من عواصف تكنولوجية وتيارات فكرية لا تتوافق مع واقعنا وأفكارنا وتربيتنا ومعتقداتنا ولكننا نتغاضى عنها مقدمين دائما الحجج والأعذار للتهرب بطريقة أو بأخرى من إلقاء اللوم على أنفسنا ومن أجل إراحة ضمائرنا.
لذا ترانا اليوم وبكل خجل نقف مكبلي الأيدي أمام تأثيرات التكنولوجيا السلبية على فلذات أكبادنا. نحن، اليوم، خاضعون وبكامل إرادتنا لهذه الآفة والأخطر من هذا، أننا نحن من جعلنا أطفالنا رهائن لهذه الظاهرة التي قتلت سلوك الطفل من خلال ما تحتويه من خطابات الكراهية والحقد والعنصرية ومن محتوى عنيف ورسائل تحرض على الإيذاء والانتحار والمقامرة وتعاطي المخدرات والكحول...
بالإضافة إلى التنمر الالكتروني أو السيبيراني الذي تخطى مسرح المدرسة وأصبح فضاء مفتوحا يأخذ الطفل إلى الحضيض ويفقده احترامه لذاته.
ففي عام ٢٠١٩ أجرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة بحثا في ثلاثين دولة نشرت فيه بأن واحدا من كل ثلاثة أطفال يتعرض يوميا إلى التنمر، كما أن واحدا من كل خمسة أطفال توقف عن الذهاب إلى المدرسة بسبب التنمر أو العنف الالكتروني.
صدقا، أصبحنا نبحث عن الطفولة في كل مكان وفي كل زاوية ولكن دون جدوى. يوما بعد يوم، تختفي الطفولة، تاركة وراءها ندبات في القلب لا يزول أثرها حتى مع مرور الزمن.
حتما، نحن في ظلام دامس ولم نعد ندري إن نبكي على أنفسنا أم على الأجيال الناشئة. فغياب الطفولة السوية جرح لا يندمل، لم يعد لدينا ثقة بما يحيط بنا، لا براءة ولا حب ولا عاطفة ولا أمان ولا صدق ولا أخلاق.
إن التكنولوجيا الرقمية آفة فتكت بعالم الأطفال ومزقته إربا إربا، وربما أصبح من الصعب التعافي منها، فأقتحم الانترنت عقل الطفل وجسده وتربيته وأحلامه وسلوكه. واليوم أصبحت الطفولة مشوهة ومشتتة وهشة.
منذ القدم كان خوف الأهل مقتصرا على الاوجاع التي تطال الصحة الجسدية، أما اليوم فخوف الأهل لا حدود له، خوف من الأمراض الجسدية والذهنية والنفسية ( انعزال واجرام وانحراف وانتحار وادمان واكتئاب وتحرش )
وإذا أردنا إثبات ما نقوله، لا بد أن نقوم بمقارنة بين طفل الأمس وطفل اليوم.
طفل الأمس، كان يتمتع بالحرية والصحة الجسدية والنفسية، كان يتفاعل مع بيئته وأفراد أسرته من خلال المصافحة والتفاعل النظري والصوتي ما يعزز ثقته بنفسه. كان منغمسا باللعب في أحضان الطبيعة والعائلة والأصدقاء. وكان يمارس أنشطة ساهمت وبشكل كبير في تنمية قدراته الذهنية والحركية. كان قلبه صافيا ونقيا، الابتسامة لا تفارق وجهه لا يعرف الكره ولا الحقد ولا العنف ولا الانحطاط الأخلاقي.
أما طفل اليوم فهو طفل منحني الرأس، مدمن على التكنولوجيا الرقمية، مُتلقٍّ ومضطرب ومشوش يقضي معظم وقته في دخول منصات مختلفة على الانترنت بهدف اللعب واللهو وعندما نقترب منه يحاول التهرب وإخفاء ما يقوم به. هو لا يركز ولايصغي وإن أصغى فهو لا يتفاعل ولايتجاوب.
طفلنا اليوم سريع الانقياد، أسير ما يقدم إليه من مضايقات وابتزاز ومحتوى غيرلائق. إنه خاضع للترغيب والتشويق والجذب. لا يعرف معنى السعادة الحقيقية ولا الابتسامة الصادقة. هو منعزل، شديد القلق والعنف والتوتر، غير قادر على التمييز بين الواقع والخيال. ليس لديه توازن نفسي ولا معرفي. هذا ما أصبح عليه الطفل طفلا رقميا.
والمضحك المبكي ، أننا نتساءل عن أسباب هذه الظواهر جميعها، ونستغرب من سلوكيات وردات فعل أطفالنا التي لم نعتد عليها يوما.
غريب ألم نلاحظ بوضوح الخمول الجسدي والجفاف العاطفي عند أطفالنا؟! ألم نتعرف ختى الآن على ظاهرة " متلازمة الإنهاك الالكتروني" التي حذر منها الخبراء و الناتجة عن سبب استخدام الطفل المفرط للانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي دون رقابة. لقد حذر الأختصاصيون بعدم استخدام الأجهزة الرقمية أكثر من ساعة يوميا، كونها تشكل الصور الذهنية بطريقة آلية وتسبب ضعفا في التركيز خاصة عند الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين ٨ و١٢ سنة وذلك بسبب الصور السريعة التي ترافق الألعاب فتخزن في العقل الواعي أو اللاواعي ويستمر عقل الطفل في استرجاعها بعد التوقف عن اللعب مما يسبب التشتت الفكري وضعف في التركيز وفي ملكتي الخيال والتخيل.
كذلك أوصت منظمة الصحة العالمية وبلهجة صارمة، لمعرفتها بحجم الخطر، بمنع الأطفال بعمر السنتين وما دون أي وصول إلى الأجهزة الرقمية في حين السماح بساعة واحدة فقط يوميا لمن تتراوح أعمارهم ما بين ٣ أو ٤ سنوات.
ولتأكيد ما سبق ذكره، نسلط الضوء على تراجع المستوى الأكاديمي عند الأطفال والذي أثبتته دراسات عديدة مؤكدة بأن السبب يعود إلى انغماس الأطفال في عالم التكنولوجيا الرقمية، ما أدى إلى الخجل وعدم الثقة بالنفس، وضعف في النظر والتركيز والذاكرة و أيضا في نمو الطول بسبب السهر.
هذا ما فعلته تكنولوجيا اليوم، إنها قتلت أطفالنا.
ولكن ما ذنب الطفولة ومن المسؤول الأول عما وصلت إليه هذه الشريحة الضعيفة؟
الجميع مسؤول دون استثناء، ولكن المسؤول الأول، هو الأهل ومن ثم المدرسة التي جعلت الأجهزة الرقمية تحل محل الكتب. أيعقل مثلا أن يكون هناك تلفاز موجود أثناء التعليم؟ هذا ما هوالوضع عليه، بوجود هذه الأجهزة بمتناول أيدي الأطفال.
أما بالنسبة إلى الآباء كم من مرة أعطوا الهواتف الذكية لأطفالهم ليتسنى لهم الراحة أو التسلية مع الأصدقاء وعلى منصات التواصل الاجتماعي والانترنت أولإنهاء واجبات مفروضة عليهم .
هناك من يعتقد أن السبب أيضا يعود إلى الظروف الاقتصادية ووباء كورونا. فالأوضاع الاقتصادية فرضت على الأهل أن يعملوا باستمرار وخاصة الأمهات من أجل تحسين المستوى المعيشي، فنفذت الطاقة لديهم في مراقبة أطفالهم والعناية بهم كما يجب. أيضا جائحة كورونا التي ساهمت في هذا الانتشار الواسع في استخدام الاجهزة الرقمية و الانترنت عند الأطفال، فأثرت على ١.٥ مليار طفل ويافع. و بالطبع يوجد أسباب أخرى ساهمت في ما وصلنا إليه مثل الجهل والتراخي والإهمال. ولكن تعددت الأسباب والموت واحد، اختفت الطفولة الناصعة البياض التى كانت تعني الجلوس بين الأهل والجد والجدة وسماع الحكايات ذات المغزى الحكيم.
فعلا، تربية أطفالنا اليوم أصبحت من الأمور المعقدة، نحن لا ننظر ولكن هذا ما أثبتته دراسات عديدة. ولكن التفاؤل والإصرار لإيجاد الحلول وقت المعوقات ذكاء ونجاح بحد ذاته. فعلينا إذا اتباع الخطوات التالية: التوعية - ضبط معايير الخصوصية - التثقيف - الرقابة - تحديد وتنظيم الوقت في الاستخدام الالكتروني - اختيار المحتوى المفيد والمناسب - الإرشاد والتوجيه - الاستماع إلى الأطفال - إيجاد بيئة آمنة ، بناء جسور من الآمان والثقة والحوار والعاطفة مع أطفالنا. فضلا عن تخصيص وقت للقراءة والغناء وسماع القصص قبل النوم لتنمية القدرات المعرفية وملكة الخيال في سنوات الأولى لأنها تجعل الطفل أكثر ابداعا وحيوية ونشاطا.
وعلى الأطفال بدورهم تحمل المسؤولية - قبول فقط الأصدقاء والأقارب على صفحات التواصل الاجتماعي - حظر المضايقات - عدم أرسال صور خاصة - إذا كان هناك تحرش يجب الاحتفاظ بما أرسل لإدانة المتحرش - وطبعا الإصغاء إلى توجيهات الأهل.
نؤكد و بكل ثقة أن في ظل هذه الفوضى العارمة من الاكتساح الالكتروني، نحن قادرون على تنبؤ مصيرنا المستقبلي.
فإذا كان التطور الذي نعيشه غير مرافق بالقيم والأخلاق والمبادىء فنحن لسنا بمأمن من التفكك والانحدار الحتمي والشامل.
يقول المؤرخ أرنولد توينبي في كتابه "دراسة التاريخ" الذي يستكشف فيه عوامل نهوض ٢٨ حضارة وانهيارها:" فالحضارات العظيمة تحمل في طياتها أسباب زوالها" المجتمعات تنحدر من تلقاء نفسها نحو الاضمحلال فلا تطور محصن من الانهيار مهما بلغ ذروته.
سلام على الطفولة الحقة التي عرفناها أيام الزمن الجميل. فلا طفولة بلا أزقة و شوارع ضيقة. ما أطهرها وما أنقاها إن عرفنا كيف نحافظ عليها ففي ضحكتها نور الشمس ولمعان الأنجم.
لا للحرمان ونعم لكيفية تحقيق التوازن في الاستخدام الجيد. على أطفالنا أن يفهموا أن هناك وحوش مختبئة وراء الشاشات وأن المسألة هي مسألة اهتمام بهم لمنع استدراجهم إلى مستنقعات الغباء والبغاء والتلاعب بأدمغتهم وعقولهم الناشئة، ومن أجل سلامتهم الذهنية والجسدية وسلامة سمعتهم وهويتهم ومعلوماتهم الشخصية.
فأطفالنا لا يمتلكون الأدوات والمهارات والمعارف الضرورية للحفاظ على أمانهم على الشبكة العنكبوتية إن غابت رقابتنا.
ومن أجل ألا نصل إلى ما لا تحمد عقباه لا بد من التواصل والحوار الدائم .
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا